للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقرير القاعدة الأصولية: ظاهر الأمر يفيد الوجوب]

هناك قاعدة أصولية معروفة، وهي: ظاهر الأمر الوجوب.

والظاهر: أن تكون الصيغة محتملة احتمالاً راجحاً، واحتمالاً مرجوحاً.

فالظاهر هو الاحتمال الراجح، والاحتمال المرجوح هو الذي إذا صِيْر إليه يسمى تأويلاً.

فالتأويل: أن تصرف اللفظ عن الظاهر.

لكن لا بد أن تكون هناك قرينة دلّت على ذلك، فظاهر الأمر الوجوب، كما قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:٢٣] هذا نص في دلالته على التحريم.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإعفاء اللحية، هذا أمر ظاهره الوجوب؛ لأن المعنى الراجح من الأمر هو الوجوب، والمرجوح هو الاستحباب، فلا يصرف اللفظ عن الظاهر -الذي هو الاحتمال الراجح- إلا بدليل يصرف إلى هذا التأويل.

وهذه القاعدة يُحتاج إليها كثيراً، وعليها أدلة من العقل والنقل.

أما من العقل: فمعلوم أن السيد إذا أمر عبده بأمر فلم يمتثل هذا العبد أمر سيده فإنه يُذَمّ، ويوصف بالعصيان.

وأما النقل: فيقول الله عز وجل لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:١٢]، كان الأمر ليس دالاً على الوجوب لقال له إبليس: الأمر ظاهره لا يدل على الوجوب! وأيضاً: ليس المراد هنا هو الاستفهام، لكن المراد هو الذم والعيب، وأنه لا عذر له بإخلاله بأمر الله عز وجل بالسجود الذي جاء في قوله: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) ولو لم يكن الأمر للوجوب لكان من الممكن له أن يعتذر قائلاً: إنك لم تلزمني بالسجود بهذه الصيغة.

ويقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:٤٨]، فهذا أمر، وقد أتى في سياق ذمّهم على ترك هذا الفعل لما قيل لهم: افعلوه.

بصيغة الأمر، فلو كان الأمر يفيد الندب لما حصل هذا لهم الذم.

أيضاً: يقول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣] فقوله: ((يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)) يعني: يعرضون عن أمره بترك مقتضاه.

وفي قصة موسى عليه السلام مع أخيه هارون عليه السلام: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:٩٢ - ٩٣]، يعني: تركت مقتضى أمري.

ويقول عز وجل: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [الجن:٢٣].

والأمر الذي أمره به موسى هو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف:١٤٢]، وهذا أمر مجرد عن القرائن، فكان ظاهره الوجوب، ولذلك وصف عدم فعله بالعصيان بقوله: ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)).

وقد استدل الأصوليون على هذه القاعدة بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ} [الأحزاب:٣٦] أي: حكم {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦].

وأيضاً: يستدل بقول النبي عليه الصلاة السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، و (لولا): تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره، وهي هنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، فهذا يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة، والإجماع قائم على أن السواك مندوب؛ فلو لم يكن الأمر كذلك لأَمَر به النبي عليه الصلاة والسلام سواء شقّ عليهم أو لم يشق.

وكما في قصة بريرة لما أُعتقت وزوجها مغيث لا زال عبداً، فكان يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي من شدة تعلّقه بها، وهي تأبى الرجوع إليه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم منها أن تعود إلى زوجها قالت: (يا رسول الله! تأمرني؟ قال: إنما أشفع) فيفهم من هذا أن قولها للنبي عليه الصلاة والسلام: (أتأمرني؟) أي: إن كان أمراً فلا مناص من التزامه، وإن لم يكن أمراً فسوف تختار ما تريده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أشفع) أي: إنما أنا مجرد شافع، ولا آمرك أمراً شرعياً.

قالت: (فلا حاجة لي فيه)، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا تعجبون من حب مغيث بريرة، وبغض بريرة مغيثاً؟!) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذه المقدمة -في معنى الأمر ومقتضاه- نحتاجها دائماً قبل أن نذكر أي أَمْر أَمَر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر الناس في هذا الزمان ربما لا يبالون بأوامر النبي عليه الصلاة السلام، فإذا أردنا إخبار الناس بأي حكم شرعي من السنّة -سواء في أي قضية تخص المسلمين أو المسلمات- فينبغي أن نصدرها بالقول: إن الدليل على وجود هذا الحكم هو كل آية في القرآن فيها الحث على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>