[حكم التسوك بعد الزوال]
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) متفق عليه.
والخلوف هو: تغير رائحة فم الصائم.
وهذا الحديث يستدل به بعض العلماء على كراهة السواك بعد الزوال، واستدلوا أيضاً بحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي)، وهذا هو أول دليل يُستدل به على كراهة السواك للصائم بعد الزوال، والحديث أخرجه البيهقي، وهو ضعيف، وذكر الألباني أن بعض علماء الحديث له تتمة: (فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانت نوراً بين عينيه يوم القيامة)، وهذه الرواية أيضاً ضعيفة.
أيضاً: استدل الشافعية والحنابلة بدليل آخر ذكرناه آنفاً، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، فقالوا: إن الاستياك بعد الزوال يزيل خلوف فم الصائم، (وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، لأنه أثر عبادة مستطاب فلم تستحب إزالته، كما هو الحال في دم الشهداء، حيث أن الشهيد لا يُغسّل حتى لا يُزال عنه هذا الدم؛ لأنه يبعث يوم القيامة: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فهذا أثر من آثار العبادة، وهو أثر مستطاب، فينبغي أن يحافظ عليه؛ لأن الله عز وجل يحب هذا الأثر من آثار العبادة.
أما الحنابلة فذكروا في بعض المواضع أن السواك إنما استحب لإزالة رائحة الفم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من رائحة المسك)، رواه الترمذي وحسّنه.
قال الحنابلة والشافعية: وإزالة المستطاب مكروه، فشعث الإحرام من المستحب أن يفرق، وأن يأتي الحجاج إلى الله عز وجل في يوم عرفة شُعثاً غُبراً، قد تغبروا بالتراب، وانشغلوا عن تحسين هيئتهم بذكر الله تبارك وتعالى وعبادته، فالإنسان يكون في هيئة المسكنة والتواضع، ويأتي التراب الشديد فيعلو عليه من أثر السفر، ومن أثر مشقة التزام الإحرام وغير ذلك.
يتكلم العلماء أحياناً على هذه الآثار، ويذكروا أن آثار العبادة إنما يكون مشهوداً لها بالفضل أو مشهوداً لها بالطيب، فمما يشهد له بالفضل: بلل الوضوء الذي على الإنسان، وأثر التيمم، وشعث المحرم، ويذكرون أحياناً ما يصيب العالم عندما يكتب الكتب والمصنفات من الحبر، فيكون لهذا المداد فضل، كما في بعض الأحاديث الضعيفة: (مداد العلماء خير من دماء الشهداء)، فهذه كلها آثار عبادة، لكن هذا مشهود له بالفضل لا بالطيب كما هو الحال في دم الشهيد وخلوف فم الصائم.
يقول الشافعي: ثبت أن دم الشهيد لا يُزال، بل يُترك للمحافظة عليه، مع أن غسل الميت والصلاة عليه واجبة، وهي فرض كفاية، فإذا ترك من أجله واجبان دل على رجحانه عليهما؛ لكونه مشهوداً له بالطيب، فيترك السواك أيضاً الذي هو سنة من أجل الإبقاء على المستطاب من خلوف فم الصائم فيكون أولى ألا يزال بعد الزوال حتى تبقى هذه الرائحة عند الغروب.
أيضاً في حديث علي: (إذا صُمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي)، قال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف.
وهذه المسألة -والله أعلم- من المسائل الحنبلية المرجوحة، قال الشيخ عبد الرحمن بن القاسم النجدي - أحد علماء الحنابلة وهو الذي جمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - يقول عن الحديث السابق: ولا يعارض به ما تواتر من الأحاديث المطلقة، وعن أحمد: يُسنّ مطلقاً -أي: هناك رواية عن الإمام أحمد أن السواك يُسنّ مطلقاً- اختاره الشيخ وتلميذه وغيرهما -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - واستظهره في الفروع، وقال الزركشي: هو أظهر دليلاً.
وهو قول أكثر العلماء، وهو المختار.
ولحديث عامر: (رأيته ما لا أحصي يستاك وهو صائم)، فهو مذهب جمهور الأئمة، وأكثر الأحاديث الواردة فيه تدل على استحبابه للصائم بعد الزوال كما يستحب قبله، والإطلاق في سائرها يدل عليه، ولم يثبت في كراهته شيء، والخلوف ليس في محل السواك، إنما هو من أبخرة المعدة، ومرضاة الرب أطيب من ريح المسك، والقياس يقول بموجبه.
حكاه الشيخ وغيره.
يعني: أن الحديث فيه: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب)، وفي حديث أبي هريرة: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، مرضاة الرب أطيب من ريح المسك.
هذا ما ذكره بعض علماء الحنابلة، وحديث عامر بن ربيعة: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم)، حسنه الترمذي، لكن ضعفه الألباني، وإن كان قد حسّنه الحافظ ابن حجر في التلخيص وضعّفه في موضع آخر، وقال الإمام الترمذي عقب هذا الحديث: إن الشافعي لم ير في السواك بأساً للصائم أول النهار وآخره، وكرهه أحمد وإسحاق آخر النهار.
والذي يظهر في هذه المسألة أن الراجح هو: استحباب السواك للصائم عند كل صلاة، وعند كل وضوء، وفي كل وقت ولو بعد الزوال؛ لعموم هذه الأحاديث التي لم تخص وقتاً من الأوقات.