للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أدلة وجوب إعفاء اللحية]

الدليل الأول على الترهيب من عدم امتثال إعفاء اللحية: هو كل آية في القرآن تُرهّب من معصية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا هو أعظم الأدلة على وجوب امتثال أوامره.

ثم تأتي أدلة خاصة في المسألة تتعلق بالمسائل التي نحن بصددها: روى ابن عمر رضي الله عنهما -كما في الصحيح-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية).

وقال عليه الصلاة والسلام: (أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)، وفي الحديث الآخر: (جزوا الشوارب، وأعفوا اللحى، وخالفوا اليهود).

فهذه كلها صيغ أمر ووردت بصيغ مختلفة جمعها الإمام النووي رحمه الله تعالى، فحصل منها خمس صيغ: (أعفوا)، (أوفوا)، (أرخوا)، (وفّروا)، وهذا كله للوجوب يفيد وجوب امتثال المأمور به؛ لأنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وليست هناك قرينة تصرفه إلى الندب، ويجب القول: بأن حلق اللحية معصية صريحة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وبعض الناس يفتشون في كتب الفقه عن أي شيء يسند موقفهم بعدما يكون موقفهم في النهاية هو الحاكم على اختياراتهم، فإذا ظفروا بشيء يضعف الحكم المشهور مالوا إليه، واعتصموا بأن خلاف الأمة رحمة، وأن لا إنكار في المسائل الخلافية، وأن هناك علماء قالوا كذا، وعلماء قالوا كذا، ويكون الهوى هو الحاكم في مثل هذه القضية!! والذي استطاعوا أن يظفروا به: هو خلاف الأصوليين في صيغة الأمر، هل هي تقتضي الوجوب؟ أم أنها تقتضي الندب؟ فاعتبروا هذا الخلاف بين العلماء في كتب الأصول مسوّغاً للفرار من الالتزام بإعفاء اللحية، وقالوا: هو سنة وليس واجباً.

ولو سلّمنا لهم بأنها سنّة فلماذا يواظبون على تركها؟! هذا إذا لم يشنعوا على القائمين بفعلها والممتثلين لها! فهم يقولون بأفواههم: هي سنة.

ومع ذلك ترى عامتهم معرضون عن هذه السنة! فيقولون: الأمر الغالب في قوله: (جزوا الشوارب وأعفوا اللحى) هذا أمر للندب، وطالما كان الحال كذلك فإن إباحة الحلق تؤخذ من جهة كون المندوب غير ممكن.

فعلى هذا الكلام -وهو قولهم: الأمر للندب- يكون إعفاء اللحية وتقصيرها وتنميتها وتركها على حالها، هذا هو مقتضى كل هذه الروايات؛ لأن الأمر هو أمر بالإطالة لا بمطلق وجود اللحية، فمطلق وجود اللحية هو شيء مفروغ منه، كما سيأتي في الأدلة أن الذين كانوا يقصون اللحى ويقصرونها هم المجوس، كما يفعل كثير من الناس في هذا الزمان، فالمنهي عنه هو مخالفة المجوس بتوفير اللحية، لا مجرد وجود عينة رمزية تشير إلى وجود لحية في وجه الرجل.

فحتى لو قالوا: إن الأمر على الندب، فيجب أن نبحث: ما هو الشيء المندوب والمستحب في الحديث؟ المستحب: هو الإطالة والتوفير فقط، أما أصل وجود اللحية فغير داخل في مثل هذا الاستدلال.

فالإعفاء والإرخاء والإسدال والتوفير وترك اللحى على إطلاقها، الذي يقابل هذا كله: هو التقصير، لا الحلق والاستئصال.

والعلماء يقولون: قد يأتي النهي أحياناً بصيغة الأمر؛ لأن النهي هو طلب الكف عن الفعل.

وقد يرد النهي بصيغة الأمر، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعفوا)، يعني: اتركوها وأعفوها ولا تقصوها.

فالنهي يستلزم اجتناب الحلق: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، فالشيء المعين إذا أمر به، كان ذلك الأمر نهياً عن الشيء المعين المضاد له، فإذا أُمرت بالحركة، فالأمر بالحركة يتضمن النهي عن السكون، وهذا حينما يكون المحل واحداً كذلك إذا كان المحل متعدداً، مثل الأمر بالقيام، فإنه يتضمن النهي عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك من الهيئات.

فالكف عن المحل لازم للأمر لزوماً لا ينفك عنه، فلا يحصل الأمر إلا بالكف عما يضاده، لاستحالة اجتماع الضدين.

وقد أتى ما يشعر بالنهي الصريح في حديث أبي ريحانة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر: عن الوشر والوشم والنتف).

يقول القاري في مرقاة المفاتيح: والنتف.

أي: عن نتف النساء لشعورهن من وجوههن، أو نتف اللحية بأن ينتف البياض منهما، أو نتف الشعر عند المصيبة.

فالعلماء لم يكونوا يتخيلون أن الناس سوف يتعدّون المخالفة إلى الإزالة الكاملة كما يحصل الآن، لكن حملوها على أنه نتف الشعر الأبيض من اللحية، حتى لا يظهر الشيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>