[استحباب خضاب الشيب بغير السواد]
يُسنّ خضاب الشيب بالصفرة أو الحمرة، وليس بالسواد، وخضاب الشعر يعتبر من السنن المهجورة بسبب ضغط المجتمع؛ لأن المجتمع غالباً يكون منحرفاً عن الشرع، يستنكر على الإنسان إذا خضب لحيته مثلاً بالحناء، ويظن كثير من الناس أن من خضب شعره قد ارتكب شيئاً من شأن النساء، أو أنه يتصابى، إلى غير ذلك من الحجج السقيمة الواهية، وهم بهذا يهجرون سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل ويحذرون منها، وقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في أن يغيّر الشيب بأي لون ما عدا اللون الأسود فإنه نهى عنه وأمر باجتنابه، لكن ما عدا ذلك يستحب للإنسان أن يغير الشيب في رأسه ولحيته بأي لون، وأفضله الكتم، والكتم هو نوع من الحناء.
فمن السنن المؤكدة تغيير الشيب بالصفرة أو الحمرة، لا بالسواد.
يقول الإمام ابن قدامة: ويستحب خضاب الشيب بغير السواد، قال أحمد: إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به.
وذاكر -أي: ناقش- الإمام أحمد رجلاً لم يكن يخضب الشيب، فقال: لم لا تختضب؟ قال: أستحيي، قال: سبحان الله! سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: هل تستحي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -قال المروزي: قلت: يحكى عن بشر بن الحارث أنه قال: قال لي ابن داود: خضبت؟ قلت: أنا لا أتفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها؟ فقال أحمد: أنا أُنكر أن يكون بشر كشف عمله.
ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا الشيب)، وأبو بكر وعمر خضبا، والمهاجرون كذلك، فهؤلاء لم يتفرغوا لغسلها؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالخضاب، فمن لم يكن على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء.
يقول: يستحب الخضاب بالحناء والكتم، لما روى الخلال وابن ماجة بإسنادهما عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فأخرجت إلينا شعراً من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوباً بالحناء والكَتَم.
الكتم يقال: هو نبات يخرج باليمن، والصبغ به يجعل الشعر أسود ضارباً إلى الحمرة، والصبغ به وبالحناء معاً يخرج بين السواد والحمرة.
يقول: وخضب أبو بكر بالحناء والكَتَم ولا بأس بالورفة والزعفران؛ لأن أبا مالك الأشجعي قال: كان خضابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الورفة والزعفران.
وعن الحكم بن عمرو الهتاري قال: دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر وأنا مخضوب بالحناء وأخي مخضوب بالصفرة، فقال لي عمر بن الخطاب: هذا خضاب الإسلام، وقال لأخي رافع: هذا خضاب الإيمان؛ أي: لأنه خضب بالصفرة، والصفرة أفضل من الحناء.
والخضاب يكون في الشعر فقط؛ لأن الرجل إذا خضب يقصد الشيب في شعره ولحيته، لكن ليس بالسواد إلا في حالة واحدة فقط، حيث اجتهد بعض العلماء فقالوا: يستحب لمن شابَ شعر رأسه ولحيته في حالة الجهاد -أي: في قتال الأعداء- أن يخضب بالسواد؛ لإرهاب الأعداء، وإظهار أن في المسلمين الفتوّة والشباب، وأنهم ليسوا كباراً في السن، والله أعلم.
ولا يجوز للرجل بحال من الأحوال أن يخضب اليدين والرجلين، كما جاء في بعض الأحاديث: (هذا فعل المخنثين)، وإن كان الحديث ضعيفاً، لكن هذا من شأن النساء، وقد استثنى بعض العلماء حالة التداوي، لكن الأصل أن هذا من التشبه بالنساء، وقد (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال).
ويُكره الخضاب بالسواد، قيل لـ أبي عبد الله: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله.
قال: وجاء أبو بكر بأبيه رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً -الثغامة نبات شديد البياض- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيّروهما، وجنبوه السواد)، أي: غيروا لون رأسه ولحيته.
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة).
ورخص فيه إسحاق: للمرأة أن تتزين به لزوجها، لكن يتضح هنا بإطلاق الأدلة أنه لم يستثنِ المرأة في شيء من ذلك، فيجوز للمرأة أن تغير الشيب، لكن ليس بالسواد.