للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالسَّاجدُ يقربُ الرَّبُّ إليه فيدنو قلبهُ منْ ربِّهِ، وإنْ كانَ بدنهُ على الأرضِ. ومتى قربَ أحدُ الشيئينِ منَ الآخرِ صارَ الآخرُ إليهِ قريبًا بالضَّرورةِ. وإنْ قدِّرَ أنَّهُ لمْ يصدرْ منَ الآخرِ تحرُّكٌ بذاتهِ، كما أنَّ منْ قرُبَ منْ مكةَ قربتْ مكةُ منهُ.

وقَالَ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنْ ربِّهِ عزَّ وجلَّ: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (١).

فكلَّما تقرَّبَ العبدُ باختيارهِ قدرَ شبرٍ زادهُ الرَّبُّ قربًا إليهِ حتَّى يكون كالمتقرِّبِ بذراعٍ. فكذلكَ قربُ الرَّبِّ منْ قلبِ العابدِ، وهو ما يحصلُ في قلبِ العبدِ منْ معرفةِ الرَّبِّ والإيمانِ بهِ، وهوَ المثلُ الأعلى؛ وذلكَ أنَّ العبدَ يصيُر محبًّا لما أحبَّ الرَّبُّ، مبغضًا لما أبغضَ، مواليًا لمنْ يوالي؛ معاديًا لمنْ يعادي؛ فيتحدُ مرادهُ معَ المرادِ المأمورِ بهِ الذي يحبُّهُ الله ويرضاهُ (٢).

وقالَ صلى الله عليه وسلم: «أقربُ مَا يكونُ الرَّبُّ من العبدِ فِي جوفِ الليلِ الآخِرِ، فَإِنِ استطَعْتَ أن تكونَ ممن يذكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» (٣).

وليسَ هذا القربُ كقربِ الخلقِ المعْهودِ منهم، كما ظنَّهُ منْ ظنَّهُ مِنْ أهلِ الضَّلالِ؛ وإنَّما هوَ قربٌ ليسَ يشبهُ قربَ المخْلوقينَ، كما أنَّ الموصوفَ بهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١] (٤)؛ بَلِ الرَّبُّ تعالى فوقَ سمواتهِ على عرشهِ، والعبدُ في الأرضِ (٥).


(١) رواه مسلم (٢٦٨٧).
(٢) مجموع الفتاوى (٥/ ٥٠٣ - ٥١٣).
(٣) رواه النسائي (٥٧٢)، وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (٥٥٧).
(٤) فتح الباري (٣/ ١١٦ - ١١٧)، لابن رجب الحنبلي.
(٥) مدارج السالكين (٣/ ٢٧٢) [دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثانية].

<<  <   >  >>