وقد سبق لي أنا نفسي أن أصدرت مثل هذا الحكم في دراسة كنت كتبتها إبّان أحداث فلسطين التي كشفت عن مظاهر الضعف المؤسفة في العالم العربي؛ فقد كان يبدو آنذاك أن التاريخ الإسلامي سوف يتم إنجازه في القارة الآسيوية. ولكن حدث بعد هذا الحين أن ظهرت أحداث جديدة كان من شأنها التأثير في تطور العالم العربي، الأمر الذي بدا معه أن مركز ثقل التاريخ الإسلامي قد رجع من جديد إلى معاقله التقليدية- كالقاهرة مثلاً- حيث كانت الثقافة الإسلامية تشع على العالم خلال القرون.
أما النقطة الثالثة والأخيرة- وهي التي نريد إلفات ذهن القارئ إليها بالخصوص- فتتعلق ببعض المجهولات التي لم تتبلور بعد بوضوح في الواعية الإسلامية الموضوعة أمام مشهد العالم المخطط. وهذه المجهولات يمكن التعبير عنها بطرق عديدة، ومن الراجح جداً أن يكون المختصُّون بمراقبة سير القضايا الإسلامية في العالم، متتبعين لتطورها بانتباه بالغ. ويمكننا نحن أنفسنا أن نتمثل هذا التطور في صورة عملية كيميائية تتمّ في إناء مغلق. ومنذئذ نصبح بإزاء مشكلة ميكانيكية؛ فإذا توازنت القوى الداخلية والقوى الخارجية على جانبي حواجز الإناء، أمكن للعملية أن تستمر في تساوق، وأن تؤول إلى نتيجتها الطبيعية. أما إذا حدث أيُّ اختلال في التوازن فإن حواجز الإناء تتطاير شظايا بديدة في الهواء، وتتوقف العملية الكيميائية توقفاً لا يمكن تداركه.
إن الإناء المغلق يصور العالم الإسلامي في مجرى تطوره الراهن؛ فهناك قوى داخلية تعمل على تحويله بغية تكييفه مع الحياة العالمية الراهنة إلا أنه يعاني على دائرة محيطة- كما سلف أن أوضحت ذلك- مفعول قوى خارجية مريبة. فإذا لم يتح للقوى الداخلية أن توازن مفعول القوى الخارجية، فإن الأمر سيؤول لا محالة إلى تطاير حواجز الإناء شظايا بديدة في الهواء؛ وحينئذ يتسنَّى للنزعة الاستعمارية وللشيوعية التقاط تلك الشظايا البديدة.