ومثل آخر يوضح هذا ويؤكده، وهو لا يتعلق بالمتشابه، بل يتعلق بكلمة عادية، ولهذا دلالته فى موضوعنا، روى أن عمر رضى الله عنه قرأ (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) من سورة (عبس) فقال وما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا هذا، مع أن الأب ليس من المتشابه، ولكن عمر رأى السؤال تكلفا منهيا عنه، إذ لا بد أن الأب نبات خلقه الله، وهذا يكفى. والشاهد أن عمر كان من حفاظ القرآن .. وقرأ هذه الآية مرات .. حتى سأل نفسه أخيرا هذا السؤال، ثم استدرك وأعلن أن البحث عن مثل هذا تكلف لا داعى له، بل نهوا عنه ...
وعمر بلا شك كان يدرك المعنى الإجمالى. وهو العبرة المستمدة من خلق الله هذه الأشياء:«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ»(١) فالأب لا يخرج عن كونه نباتا جعله الله مع ما ذكره من أنواع ما تنبته الأرض «متاعا لكم ولأنعامكم» أما ما هو بالذات .. فلم يكن يعرفه عمر كما روى، والاشتغال بمعرفته تكلف كما قال .... والمعنى العام لا يتوقف على معرفته ..
وقد رويت حادثة السؤال عن (الأب) بتشديد الباء، بروايات مختلفة فى بعضها زيادات عن البعض الآخر وكلها توضح المعنى الذى نريده .. ففي رواية أن عمر رضى الله عنه سأل نفسه عن الأب. ثم قال: ما كلفنا هذا، كما سبق، ورواية تقول: أن رجلا سأل عمر، فقال له عمر: نهينا عن التكلف والتعمق .. وفى رواية أن عمر قرأ (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال هذه الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ .. ثم استدرك وقال: هو التكلف. فما عليك ألا تدريه ..
وقد أورد الإمام الشاطبى روايتين من هذه الروايات، وضم إليهما رواية تأديب عمر لصبيغ، لسؤاله عن المرسلات الخ .. ثم قال:(وظاهر من هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبى معلوم على الجملة، ولا ينبنى على فهم هذه الأشياء حكم تكليفى فرأى الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف).