فأول مظهر للتصوير، هو إخراج مدلول اللفظ من دائرة المعنى المجرد إلى الصورة المحسوسة والتخيلة.
المظهر الثاني: تحويل الصور من شكل صامت إلى منظر متحرك حيّ.
المظهر الثالث: تضخيم المنظر وتجسيمه حينما يكون الجو والمشهد يقتضيان ذلك.
والوسيلة القريبة إلى تحقيق هذه المظاهر، لا تعدو أن تكون استعارة، أو مجازا مرسلا، أو تشبيها وتمثيلا. وهذه الوسائل التي وضع عليها علم البيان إنما هي قواعد استخلصت واستنبطت من التصوير الذي انطوى عليه أسلوب القرآن الكريم؛ فالقرآن هو الأساس لهذه القواعد وليس العكس كما قد يتوهم.
أما الوسيلة البعيدة، فلسنا نملك منها إلا الوصف التقريبي؛ إذ هي سر إعجازه وهي الغاية التي تقف دونها طاقة أئمة البيان. وكل ما نستطيع أن نقول عنها أنها الكيفية اللطيفة الدقيقة التي تتألف الكلمات على وفقها وتتناسق الحروف والحركات وما يتبعها من مدود وشدّات على أساسها، فتخرج الكلمة والجملة في قالب من اللفظ وطريقة الأداء يبث في الإحساس والخيال صورة مجسّمة حيّة للمعنى! ..
ولو ذهبت تفكر، لتقف على القاعدة التي بها يتم تصوير اللفظ للمعنى، كي تتخذ منها دستورا لصياغة الكلام، على نحو ما فعل العلماء في استنباط قواعد الاستعارة والمجاز وغيرهما- لما انتهيت إلى شيء! ... كل ما يمكن للفكر أن يعلمه، وكل ما يمكن للحس أن يشعر به، هو أن هذه الألفاظ القرآنية تلصق صورة المعنى وشكله بإحساسك، وإن لتناسق حروفها المعينة وتوالي حركاتها المتنوعة مدخلا وأثرا كبيرا في هذا التصوير.
ثم إنك قد تجد الجملة كلها تحمل إلى خيالك صورة المعنى وتبث فيه الحركة والحياة، وقد تجد كلمة واحدة تؤدي هذه المهمة كلها.
وما أظنك إلا مستعجلا في الانتقال إلى عرض نماذج وأمثلة لكل هذا الذي نقول، فلنكتف بما ذكرناه من التقرير والتعريف النظري، ولنبدأ بذكر