للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

معها أكثر مما يتفق مع الْكَوْنِيَّة، وفي قَوْلهُ: {أَنْزَلْنَا}، أي: بالوَحْي الشَّرعي لأنه ينزل حَقِيقَة من العلو إلى السُّفل؛ ولأَنَّهُ ينزل من الله عَز وجَلَّ على قلب النَّبِيّ عليهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فهو نزول حقيقي، وقد حرفه بعضهم إلى أن المُراد بالإنزال: الوَحْي، فقال: {أَنْزَلْنَا} يعني أوحينا، وقال: إن النُّزول لا يَكُون إلا من أعلى ولا يَكُون إلا في جُرم، يُقال: نزل الْإِنْسَان من السطح إلى الأَرْض، والقرآن لَيْسَ كَذلِكَ، ولا شَك أن الَّذِي يَقُول هَذَا الكَلام ينكر علو الله، ولهذَا أهْل السُّنَّة والجَماعَة من جملة ما استدلوا به على علو الله: أن الله أنزل القُرْآن على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يلْزَم من الإنزال أن يَكُون المُنزِل عاليًا، لكن الَّذِي يفسره بالوَحْي بحجة أن الشَّيء النَّازل ذو جرم، والقرآن لَيْسَ ذا جرم وإنما هو قولٌ ينزل، فهَذَا لا شَكَّ أنه محرف لكلام الله عز وجلَّ.

ونحن نقول: إن القُرْآن ينزل كما قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا، وإن كَلِمة ينزل غير كَلِمة يوحى بل لها معنى آخر خاص، ثم إنه ما المانِع من أن يَكُون النُّزول في الْأُمُور المعنويَّة وَيكُون النُّزول إِذَا أضيف إلى الْأُمُور الحسية فهو لذوات الأجرام، وإذا أضيف إلى الْأُمُور المعنويَّة فله معنى آخر، ألَيْسَ الله يَقُول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: ٤]، والسكينة ليست حجرًا يُلقى في الْقَلْب، بل هي أمرٌ معنويٌّ، فإِذَنْ النُّزول يَكُون في الْأُمُور المعنويَّة.

ثم ما المانِع أن يَكُون القُرْآن أيضًا له جرم، ولكنَّنا لا نعرف هَذَا الجرم؛ لأَن الله يَقُول للرَّسول - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥)} [المزمل: ٥] المزمل: ٥]، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - نزل علَيْه الوَحْي وهو راقد على رجل حذيفة حَتَّى كاد يَرُضّها (١)،


(١) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، رقم (٢٨٣٢).

<<  <   >  >>