جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ الْوَاحِدِ مِنْ ذَلِكَ، لَمَا حَضَرَ ذِهْنُهُ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِيهِ، وَلَامْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَذْكُرَ جَمِيعَهُ حَتَّى لَا يَشِذَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَمَعَ تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ حَفِظَ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبْوَابِ، لَمَا جَازَ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِمَا حَفِظَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ فِي جَوَازِ قِيَاسِ الْحَادِثَةِ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا رُوِيَ فِي الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِيَاسَ الْحَادِثَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْبَابِ الَّذِي هِيَ مِنْهُ. أَلَا تَرَى: أَنَّا قَدْ نَقِيسُ الْبَيْعَ عَلَى النِّكَاحِ، وَعَلَى الْكِتَابَةِ، وَنَقِيسُ النِّكَاحَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، وَنَقِيسُ الْوَطْءَ عَلَى سُكْنَى الدَّارِ، وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ: أَنْ لَا يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ، حَتَّى يُحِيطَ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا وَرَدَ مِنْ النَّصِّ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَغَيْرِهَا، فِي سَائِرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَهَذَا شَيْءٌ مَأْيُوسٌ وُجُودُهُ مِنْ أَحَدِ الْقَائِسِينَ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الْقِيَاسِ لِمَنْ عَرَفَ جُمَلَ الْأُصُولِ الَّتِي يَكُونُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، لِأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ لَمْ يُكَلَّفْ حُكْمَهُ، وَلَا الْقِيَاسَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ الْقِيَاسَ عَلَى مَا يَحْضُرُهُ مِنْهَا. وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِي الْمُتَحَرِّي لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ: إنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لِمُحَاذَاتِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِسَائِرِ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ.
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْحُرُوبِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِيهِ. وَإِنَّمَا شَرَطْنَا مَعَ الْحِفْظِ لِلْأُصُولِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِطَرِيقِ الْمَقَايِيسِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute