للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ: فَلَيْسَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِمَا مَوْكُولًا إلَى آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَبَ عَلَيْهِمَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً، تُفْضِي بِالنَّاظِرِ فِيهَا إلَى وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا. وَإِنَّمَا نَصَبَ الدَّلَائِلَ (عَلَيْهَا) فِيمَا كُلِّفْنَا عِلْمَهُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ حَالُهُمَا مِمَّا يَقْتَضِي حَظْرًا (وَ) إيجَابًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَنْصُوبٌ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ (فِيهَا) بِمَدْلُولِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ فَسْخُ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ إذَا قَضَى فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ عِنْدَنَا.

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: لَيْسَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا حُكْمُهُ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ مُتَعَبِّدًا بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ، وَغَالِبُ ظَنِّهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي كَانَ يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ لَهُ دَلِيلًا بِعَيْنِهِ عَلَى الْأَشْبَهِ الَّذِي يَتَحَرَّى الْمُجْتَهِدُ مُوَافَقَتَهُ، وَيَطْلُبُهُ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لِلْحَادِثَةِ أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا مِنْ الْأُصُولِ، وَأَخْفَى عِلْمَ الْأَشْبَهِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ عَنْهُمْ، تَوْسِعَةً مِنْهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَرَحْمَةً مِنْهُ لَهُمْ، وَنَظَرًا مِنْهُ وَتَخْفِيفًا، لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا إلَّا طَرِيقٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: ٧٨] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جِئْتُكُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» . وَلَوْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ الْقِيَاسَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَأَلَّا يَزِيغُوا عَنْهُ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>