للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهُ ذَلِكَ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَدْسِ وَالظَّنِّ، وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي تَحَرِّي الْأَصْوَبِ وَالْأَوْلَى. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ سَاغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِخْرَاجِ حُكْمِ حَادِثَةٍ أَنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إبْرَامِ الْحُكْمِ: «لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» دَلَّ (عَلَى) أَنَّ حُكْمَهُ وَافَقَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى (فِيهِ) حُكْمٌ غَيْرُهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا فِي حُكْمِهِ، مِنْ حَيْثُ يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَأَمْضَاهُ بِاجْتِهَادِهِ. (وَلَوْ) كَانَ حَكَمَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى (أَيْضًا) ، إذْ سَوَّغَ إمْضَاءَ مَا رَآهُ صَوَابًا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ حَكَمْت بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي شَيْئَيْنِ، صَارُوا فِي أَحَدِهِمَا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ، وَإِلَى التَّحَزُّبِ وَالْقِتَالِ وَاللَّعْنِ وَالْبَرَاءَةِ. وَهُوَ مَا قَدْ عَلِمْنَا كَوْنَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَكَانُوا فِي الِاخْتِلَافِ الْآخَرِ مُتَسَالِمِينَ غَيْرِ مُنْكِرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ خِلَافَهُ إيَّاهُ فِيهِ، وَهُوَ أَحْكَامُ حَوَادِثِ الْفُتْيَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ افْتِرَاقُ حُكْمِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ إلَى الْبَرَاءَةِ، وَاللَّعْنِ، وَالْقِتَالِ، رَأَوْا أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا مَنْصُوبًا، يُفْضِي إلَى الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِ، وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>