{خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: ٥٠] لَمَّا أَرَادَ إفْرَادَ النَّبِيِّ بِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخُصَّهُ لَعَقَلَتْ الْأُمَّةُ مُسَاوَاتَهَا لَهُ فِيهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: حَدِيثُ «الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ حِينَ بَعَثَ بِهَا زَوْجُهَا إلَيْهَا لِتَسْأَلَهَا عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَأَخْبَرَتْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَسْت كَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لِنَبِيِّهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَأَلَتْهُ، فَقَالَ: النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأُمِّ سَلَمَةَ: هَلَّا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَدْ أَخْبَرْتهَا بِذَلِكَ، فَقَالَ زَوْجُهَا: لَسْت كَالنَّبِيِّ، إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَالَ: إنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ» .
فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنَّ وُجُودَ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ كَافِيًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاقِعًا عَلَى وَجْهِهِ كَانَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ، فِي إيقَاعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ، قُلْنَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، إذْ كَانَتْ أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ بَدْءًا، وَلَا وَاجِبًا، لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ حُكْمٍ لَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنْ يَكُونَ هُوَ فَعَلَهُ، حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مِنَّا مِثْلَهُ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَاتَّبِعُوهُ وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: ٢١] فَكَانَ الِاتِّبَاعُ وَالتَّأَسِّي: أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّا إيقَاعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَّا، بِإِرَادَةٍ مَقْرُونَةٍ بِفِعْلِ مِثْلِهِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ، مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَأَيْضًا: لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ لَنَا الدَّلَائِلَ: عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحُكْمَ أُمَّتِهِ سَوَاءٌ، إلَّا فِيمَا خَصَّهُ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا: أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَنَكُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute