بَقَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ. فَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَجَازَ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ: إنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهَا فِي حَالِ الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَلَا تَزُولُ عَنْ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، حَتَّى يَنْقُلَنَا عَنْهُ دَلِيلٌ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّافِيَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَنَقُولُ لَهُ: فَأَقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ اعْتِقَادِك لِلنَّفْيِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَك لِنَفْيِ الْحُكْمِ: هُوَ إثْبَاتُ حُكْمٍ.
فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ هَذَا الِاعْتِقَادُ؟ فَإِنَّك لَا تَأْبَى مِنْ إيجَابِ (الدَّلِيلِ) عَلَى الْمُثْبِتِ. وَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، كَذَلِكَ نَقُولُ لِلْقَائِلِ: بِأَنَّا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ: إنَّك قَدْ أَثْبَتّ حُكْمًا لِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ، فَهَلُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، إلَى أَنْ نَرْجِعَ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي فَيَلْزَمُك مَا أَلْزَمْنَاهُ، وَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ: مِنْ فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا كَانَتْ الْحَالُ الْأُولَى يَقِينًا، لَمْ يَجُزْ لَنَا بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ: أَنْ نَزُولَ عَنْهَا بِالشَّكِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ (فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى الْحَالِ الْأُولَى. قِيلَ لَهُ: الْيَقِينُ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَعْدَ وُجُودِ الشَّكِّ)
فَقَوْلُك لَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ خَطَأٌ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِزَوَالِ حُكْمٍ قَدْ عَلِمْنَاهُ يَقِينًا بِغَيْرِ يَقِينٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: ١٠] وَقَدْ كَانَ كُفْرُهُنَّ يَقِينًا، فَأَزَالَهُ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْيَقِينِ بِزَوَالِهِ، لِأَنَّ إظْهَارَهُنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِيَقِينٍ أَنَّهُنَّ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} [التوبة: ١٠٢] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَحَكَمَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَإِزَالَةِ حُكْمِ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُهُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ مِنَّا بِحَقِيقَتِهَا، إلَّا مَا أَظْهَرُوا مِنْ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فِي قَوْمٍ آخَرِينَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute