للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا خُوطِبَ بِهِ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحْوِجْ إلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَغْنَانَا عَنْهَا بِالسَّمْعِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ وَدَلَائِلِهَا، وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَكْذِيبِ مُسَيْلِمَةَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ وَالنَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَلَا يَتَأَتَّى فِعْلُهُ لِمَخْلُوقٍ، وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ مَخَارِيقَ وَحِيَلَ لَا تَعُوزُ أَحَدًا صَرْفُ هِمَّتِهِ إلَيْهِ إلَّا فَعَلَ مِثْلَهُ وَأَضْعَافَهُ.

وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يُضَاهِي قَوْلَ دَاوُد فِي قَوْلِهِ: إنِّي عَرَفْت اللَّهَ بِالْخَبَرِ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مُقِرٌّ: أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى، لِزَعْمِهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إلَى عِلْمِ ذَلِكَ، إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَلَا وُصُولَ إلَى عِلْمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ إلَّا بِالْعَقْلِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذِبِ الْمُتَنَبِّي. وَعَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُرْسِلَ، وَيَعْلَمَ النَّبِيَّ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنِّي عَرَفْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْخَبَرِ، لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ خِذْلَانٍ لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ، وَمِنْ جَهَالَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا نِهَايَةٌ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَعْرِفُ دَلَائِلَ الْعُقُولِ بِانْضِمَامِ الْخَبَرِ إلَيْهَا، وَمَتَى لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا الْخَبَرُ لَمْ تَكُنْ الْعُقُولُ مُفْضِيَةً إلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ.

قِيلَ لَهُ: هَذَا مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ادَّعَيْت أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِدَلَائِل الْعَقْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صَحِيحًا، أَوْ فَاسِدًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَلَا فَسَادُهُ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَاسِدًا أَوْ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجِبَ الْعِلْمَ (بِمُخْبِرِهِ لِأَنَّ مُخْبِرَهُ كَذَبَ، وَالْخَبَرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ أَيْضًا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ) ، لِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ لَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>