قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ الدَّلِيلُ مُوجِبًا لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَلَا سَبَبًا لِوُجُودِهِ، وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْقَوْمِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ إلَى الطَّرِيقِ، لَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِوُجُودِ الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ الَّذِي يُوصَلُ إلَى عِلْمِهِ بِدَلَالَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ.
وَأَمَّا الْعِلَّةُ، فَهِيَ الْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَ حُدُوثِهِ يَحْدُثُ الْحُكْمُ. فَيَكُونُ وُجُودُ الْحُكْمِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِهَا، وَمَتَى لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ، هَذِهِ قَضِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَأَصْلُهُ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ، لَمَّا كَانَ بِحُدُوثِهَا يَتَغَيَّرُ حَالُ الْمَرِيضِ، سُمِّيَتْ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْدُثُ بِحُدُوثِهَا الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ عِلَلًا، لِأَنَّ حُدُوثَهَا يُوجِبُ حُدُوثَ أَوْصَافٍ وَأَحْكَامٍ، لَوْلَاهَا لَمْ تَكُنْ. نَحْوُ قَوْلِنَا: حُدُوثُ السَّوَادِ فِي الْجِسْمِ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ، وَحُدُوثُ الْحَرَكَةِ فِيهِ عِلَّةٌ لِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا. وَنَقُولُ فِي الدَّلِيلِ: إنَّ اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجِسْمِ مِنْ الْحَوَادِثِ دَلَالَةٌ عَلَى حُدُوثِهِ، وَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً لِحُدُوثِهِ، فَإِنَّ الْحَدَثَ دَلَالَةٌ عَلَى مُحْدِثِهِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّهَا عِلَّةٌ لِمُحْدِثِهِ. فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا حَظُّهُ إيصَالُ النَّاظِرِ فِيهِ وَالْمُتَأَمِّلِ لَهُ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْمَدْلُولِ. وَأَنَّ الْعِلَّةَ سَبَبٌ لِوُجُودِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. فَقَدْ تُسَمَّى الْعِلَّةُ دَلِيلًا عَلَى مَا هِيَ (عِلَّةٌ) لَهُ، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَأَمُّلُهَا مُوصِلًا إلَى الْعِلْمِ بِمَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ عِلَّةً. وَالِاسْتِدْلَالُ: هُوَ طَلَبُ الدَّلَالَةِ وَالنَّظَرُ فِيهَا، لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَدْلُولِ.
(وَالْقِيَاسُ: أَنْ يُحْكَمَ لِلشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ الْمُوجِبَةِ لِحُكْمِهِ) . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute