فِي قَوْلِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ فِي الْحَوَادِثِ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّطِ وَالصُّلْحِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَعَلَى جِهَةِ بَوْنِ الْمَسَائِلِ، لَا عَلَى وَجْهِ قَطْعِ الْحُكْمِ وَإِبْرَامِ الْقَوْلِ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُمْ قَدْ حَسَّنُوا مَذْهَبَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَتَخَلَّصُوا مِنْ الشَّنَاعَةِ الَّتِي لَحِقَتْ النَّظَّامَ بِتَخْطِيئِهِ السَّلَفَ.
ثُمَّ تَبِعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ الْحَشْوِ مُتَجَاهِلٌ لَمْ يَدْرِ مَا قَالَ هُوَ، وَلَا مَا قَالَ هَؤُلَاءِ، وَأَخَذَ طَرَفًا مِنْ كَلَامِ النَّظَّامِ، وَطَرَفًا مِنْ كَلَامِ بَعْضِ مُتَكَلِّمِي (بَغْدَادَ مِنْ) نُفَاةِ الْقِيَاسِ، فَاحْتَجَّ بِهِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، مَعَ جَهْلِهِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْفَرِيقَانِ، مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَمُبْطِلِيهِ، وَقَدْ كَانَ (مَعَ ذَلِكَ) يَنْفِي حُجَجَ الْعُقُولِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا حَظَّ لَهُ فِي إدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، فَأَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ، بَلْ هُوَ أَضَلُّ مِنْهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: ٤٤] . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ وَفُرُوعِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ٢٣٣] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: ٢٣٣] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ٢٣٣] وَالْمَعْرُوفُ إنَّمَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِغَالِبِ (الظَّنِّ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute