البيان له إلا على وجه الإجمال بأن يقال إن أحد النوعين قد التحق بالدواب والآخر بالملائكة لأن كل واحد منهما قد سعى سعيا شابه من التحق به فإن الدابة يستعملها مالكها في مصالحه ويقوم بطعامها وشرابها وما يحتاج إليه
ومع هذا فمن نظر في الأمر بعين البصيرة وتأمله حق التأمل وجد عيش من شغل نفسه بالطاعة وفرغها للعلم ولم يلتفت إلى ما تدعو إليه الحاجة من أمر دنياه تجده أرفه وحاله أقوم وسروره أتم وتلك حكمة الله البالغة التي يتبين عندها أنه لن يعدو المرء ما قدر له ولن يفوته ما كان يدركه
وكما أن هذا المعنى الذي ذكرناه ثابت في الشريعة مصرح به في غير موطن منها قد أجراه الله على لسان الجبابرة من عباده وعتاة أمته حتى قال الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض خطبه ما معناه أيها الناس إن الله كفانا أمر الرزق وأمرنا بالعبادة فسعينا لما كفيناه وتركنا السعي للذي أمرنا به فليتنا أمرنا بطلب الرزق وكفينا العبادة حتى نكون كما أراده الله منا هذا معنى كلامه لا لفظه فلما بلغ كلامه هذا بعض السلف المعاصرين له قال إن الله لا يخرج الفاجر من هذه الديار وفي قلبه حكمة ينتفع بها العباد إلا أخرجها منه وإن هذا ما أخرجه من الحجاج
فانظر هذا الجبار كيف لم يخف عليه هذا الأمر مع ما هو فيه من التجبر وسفك الدماء وهتك الحرم والتجرؤ على الله وعلى عباده وتعدي حدوده فما أحقه بأن لا يخفى على من هو ألين منه قلبا وأقل منه ظلما وأخف منه تجبرا وأقرب منه من خير وأبعد منه من شر
وإن من تصور هذا الأمر حق التصور وتعقله كما ينبغي انتفع به انتفاعا عظيما ونال به من الفوائد جسيما والهداية بيد الهادي ﷻ وتقدست أسماؤه