فقد يوجد في زاوية من الزوايا التي لا يؤبه لها ولا يرفع الرأس إليها من يقل نظيره من المشاهير في الأمصار الواسعة ومع هذه فهذا المذاهب قد طبقت الأقطار وصارت عند المنتمين إلى الإسلام قدوة يقتدون بها لا يخرج عنها ويجتهد رأيه ويعمل بما قام عليه الدليل إلا الفرد بعد الفرد والواحد بعد الواحد وهم على غاية الكتم لما عندهم والتستر بما لديهم خوفا من المتمذهبين لأنهم قد جعلوا المذهب الذي هم عليه حجة شرعية على كل فرد من أفراد العباد لا يخرج عنه خارج ولا يخالفه مخالف إلا مزقوا عرضه وأهانوه وأخافوه والدولة في كل أرض معهم وفي أيديهم والملوك معهم لأنهم من جنسهم في القصور والبعد عن الحقائق وإذا وجد النادر من الملوك والشاذ من السلاطين له من الإدراك والفهم للحقائق ما يعرف به الحق والمحقين فهو تحت حكم المقلدة وطوع أمرهم لأنهم جنده ورعيته
فإذا خالفهم خالفوه فيظن عند ذلك ذهاب ملكه وخروج الأمر من يده
وإذا كان الحال هكذا فكيف يمكن الوقوف على ما عند كل عالم من علماء الإسلام هذا باعتبار الأحياء وهو في أهل العصور المنقرضة من الأموات أشد بعدا وأعظم تعذرا فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا ما يوجد في المصنفات وما كل من يعتد به في الإجماع يشتغل بالتصنيف بل المشتغلون بذلك منهم هم القليل النادر ومع هذا فمن اشتغل منهم بالتصنيف لا يحظى بانتشار مؤلفاته منهم إلا أقلهم وهذا معلوم لكل أحد لا يكاد يلتبس
ولا شك أن من الملوك من يصر على أمر مخالف للشرع فلا يستطيع أحد من أهل العلم أن ينكر عليه أو يظهر مخالفته تقية ومحاذرة ورغبة في السلامة وفرارا من المحنة وبالجملة فالدنيا مؤثرة في كل عصر وإذا عجز الملك عن إظهار مذهبه على فرض أنه من أهل الإدراك والحال أن بيده السيف والسوط فما ظنك بعالم المستضعف لم يكن بيده إلا أقلامه ومحبرته