واعلم أن فيما حكيناه من كلامه استدلالاً على شيئين من مذهبه: أحدهما: أن أول الجمع عند الثلاثة، ألا ترى أنه قال: التثليث أدنى العدد، يعني التثليث أو الأعداد لما حكم على الواو والنون، والألف والتاء.
والثاني: أنه قد صرح بأن الألف والتاء، والواو والنون للأدنى من الأعداد، لأنه وافق المثنى، ويعني بالموافقة أن المثنى في موضع النصب والجر، كما أن الجمع السالم في موضع النصب والجر بالياء. وكما أن الجمع بالألف والتاء في موضع النصب والجر بالكسرة، والكسرة أخت الياء، فلما توافقت هذه الأبنية فيما ذكرناه، وكان الجمع السالم على حد التثنية في سلامة لفظ الواحد فيه، صار كما ارتقى من الواحد إلى التثنية في الإفادة، ارتقى من التثنية إلى الثلاثة في الإفادة، ثم صار حكمه حكم الثلاثة في أنه من أدنى العدد متَّ إليه بماتَّة الثلاثة فصلح للكل.
فتقول: يقتضي مذهبه أن الجمع بالواو والنون، والألف والتاء الأولى فيما يفيده أدنى العدد، وهو من الثلاثة إلى العشرة، ويصلح للكثير من حيث لم يتناول هذا البناء بالجمع ثانياً. وليس نريد بقولنا: إنه يصلح له أنه إذا استعمل في الكثير كان مجازاً فيه، ولكن نريد أن الأولى به أدنى العدد ثم هو مستصلح للكثير أيضاً بالوضع. فمتى دلّ الدليل على أنه للكثير، صرف إليه.
ولا نقول: إنه مجاز فيه. والذي جعل حكم الأولى بأدنى العدد ما ذكره سيبويه من انبنائه على التثنية ومجيئه على حده، وموافقته له فيما ذكره. والذي سوغ أن يكون للكثير، ودل عليه، هو أن هذا البناء، أعني الجمع السالم لم يتناول بالجمع بناء كما تنوول الأبنية المصوغة لأدنى العدد، وهي أربعة: أفعال، وأفعلة، وأفعل، وفعلة، وكسرت تكسير الآحاد لمناسبتها لها في إفادتها القليل.
ألا ترى قولهم: أكرع وأكارع، وأبيات وأباييت وأنهم لا يفعلون ذلك بالجمع السالم، ومما يثبت ما ذكرناه ويؤيده أن الجمع السالم إذا صغِّر يصغر على لفظه، فنقول في مسلمين مسيلمون، وفي جعفرين جعيفرون، وفي مسلمات مسيلمات. كما أن ما وضع لأدنى العدد يصغر على لفظه وهي هذه الأبنية الأربعة.
وإنما صغرت على ألفاظها لأنها لما أفادت القليل أشبهت الواحد في إفادته لأدنى العدد على ألفاظها. والأبنية المفيدة للكثرة إذا صغرت ردت إلى أدنى عددها إن كان لها أدنى العدد، وإن لم يكن لها أدنى العدد ترد إلى واحدها فيصغر وتلحق فيه علامة الجمع. وإذا كان الأمر على هذا، تبين أن حكم مسلمات ومسلمون في أن الأولى به أدنى العدد، وحكم هذه الأبنية الأربعة سواء.
وإن كانت هذه الأبنية إذا استعملت في الكثير، كانت على طريق الاستعارة لأنهم كما يستعيرون الألفاظ يستعيرون البنى أيضاً.
وجمع السلامة، وإن كان الأولى به أدنى العدد فهو مستصلح للكثير أيضاً، مفيد له على الحقيقة إذا اقترنت به دلالة، فهذا حكم جمع السلامة. فإن قيل: إذا كان جمع السلامة وإن كان الأولى به أدنى العدد، قد وضع للكثير أيضاً، وينتهي به إليه إذا دلت الدلالة عليه، وذاك تغليب الأولى به لها، فلم أجري في التصغير على طريق ما وضع لأدنى العدد، وهو أنه يصغر على لفظه.
قيل له: إن الجمع الكثير متى لم يكن له أدنى العدد يرد إلى واحده، وإذا رد إلى واحده كان كجمع السلامة إذا صغر. ألا ترى أن مساجد إذا صغّرته قلت في تصغيره مسيجدات فهو على حد مسيلمات إذا صغرت مسلمات. وإذا كان كذلك فكأنهم في تصغيره على لفظه جمعوا له الحكمين جميعاً، أعني حكم أدنى العدد الذي يصغر على لفظه، وحكم الجمع الكثير إذا لم يكن له أدنى العدد فيرد إلى واحده من حيث كان موضوعاً لهما، أعني للقليل وللكثير. وإن كان متى تجرد كان الأولى به القليل للدلالة التي دلت، فقد حكي أن حسان بن ثابت لما أنشد النابغة كلمته التي فيها:
لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دما
عاب عليه قوله الجفنات، وقال له: لم قللت جفانك، فهذا يؤيد ما ذكرنا، فافهم.
وأما القسم الثاني وهو الجمع المكسر، فله بناءان: أحدهما للقليل، وقد تقدم ذكره.
والثاني للكثير، ويتفق في الأكثر أن يكون الشيء يحصل له البناءان جميعاً، ويتفق أيضاً أن يقصر على أحدهما ثم يستعمل إن كان للقليل في الكثير أيضاً، وإن كان للكثير في القليل أيضاً.