ولما كان العدد عددين: عدد قليل، وعدد كثير، خص اسم العدد من الثلاثة إلى العشرة بأن يبنى بناء القليل فيضاف إليه دون بناء الكثير، لئلا يخرجوا عن التشاكل إلى التباين، فقيل: بُرْد وبردان، وثلاثة أبراد، وفلس وفلسان، وثلاثة أفلس، وجبل وجبلان، وثلاثة أجبال، وغلام وغلامان، وثلاثة غلمة، وغراب وغرابان، وثلاثة أغربة.
ولا يؤثر فيما له بناء القليل إذا أرادوا تبين العدد القليل استعمال بناء الكثير إلاّ في النادر، وأبنية الكثير أكثر من أن يتناوله العدّ إلاّ بعد تكلف، ثم لا يؤمن أن يسقط منه الكثير أيضاً، فلذلك لم أطَّلب حصرها.
واعلم أن الأبنية التي تفيد الكثرة، كالفُجَّار، والفسَّاق، والزُّناة، والغزاة، والبيوت، والمساجد، والغرف، والشرف، والغلمان، والسُّودان، والبيضان، وما جرى مجراها متى لم يقترن لها ما يخصصها بعدد بعينه، فحكمها حكم أسماء الأجناس.
إلاّ أن أسماء الأجناس ترتقي من الواحد، وهذه الأبنية ترتقي من الثلاثة. واتفاقهما في أن كل واحد منهما وضع لأن يتناول ذلك الذي يفيده بالغاً ما بلغ، ومتى لم يقترن به ما يخصصه فيجب أن يكون مفيداً للكثرة، وكل ما استدل به في أسماء الأجناس يمكن أن يستدل بها في هذه الأبنية على أنها وضعت للكثرة والشمول.
ونقول أيضاً: إن جمع السلامة متى اقترن به ما يخرجه عما هو أولى به من إفادة القليل لحق بهذا أيضاً، لأنه وإن كان الأولى به إفادته القليل، فهو من حيث الوضع يتناول الكثير أيضاً، وقد مرت الدلالة على هذا. وإذا كان كذلك فقوله تعالى:) وهم في الغرفاتِ آمنون (بما اقترن به ما نبهنا على أنه يريد أدنى العدد، لحق في إفادته الكثرة باسم الجنس، وبما وضع للكثير وخص به.
وكذلك قوله تعالى:) إنَّ المسلمين والمسلمات (وكل ما يجري مجراه.
فإن قيل: لمَ زعمت أنه يجب تبين العدد القليل ببناء الجمع القليل وإضافته إليه، وهلا أضيف إلى بناء الكثير كما يضاف البعض إلى الكل.
قلت: إنما أضيف إلى بناء القليل لقلة العدد المعدود، ولو أضيف إلى بناء الكثير لم يحسن لسقوط الموافقة والمشاكلة من بينهما، ودخول التباعد والتباين في حدهما. ألا ترى أنك لو قلت: خمسة جمال أو سبعة بغال لكنت مقللاً بقولك: خمسة وسبعة ومكثراً بقولك: جمال وبغال، وبينهما من التدافع ما لا يخفى. فإذا قلت: خمسة أجمال وسبعة أبغل تشاكل العدد والمبين له، وتعاونا فيما يفيد أنه من القلة واستدل كل واحد من المضاف والمضاف إليه على حال صاحبه.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى:) والمطلّقات يتربصنَ بأنفسهنَّ ثلاثة قروء (، فعدل عن أقراء وهو لأدنى العدد إلى قروء وهو الكثير، وأنت زعمت أن ذلك لا يؤثر ولا يحسن.
فالجواب: أن أقراء لم يروه سيبويه، وواحده قرْء بفتح القاف، وقياس فعْل أن يكون على أفعُل وإن أثبتناه لما ورد في الخبر من قوله: أيام أقراء، بل هو مما شذ عن القياس، وإن ورد في الاستعمال كاستحوذ. فكما لا يجوز القياس على استحوذ فكذلك لا يجوز للقياس على ثلاثة قروء. وقد رد أصحابنا هذا التأويل إلى ما عليه، ونظروا فقالوا: تقديره ثلاثة أقراء من القروء.
وطريقة أخرى: وهو أنه لما كان بناء الكثير أكثر في الاستعمال وأشهر من بناء القليل بدلالة أن مثل سيبويه لم يجعل في جمع قَرْء غير قروء وصار في حكم ما لم يجيء فيه غير بناء الكثير، فكما قيل: ثلاثة رجال، وأربعة مساجد قيل: ثلاثة قروء إذا كان أقراء في حكم ما لم يجيء لقلته. ومما يكشف قبح إضافة القليل إلى الكثير وخروجه عن الملاءة إلى التدافع أنهم لم يحقروا أبنية الكثرة على ألفاظها من حيث كان التحقير تقليلاً.
وهذه الأبنية للتكثير، فكما رفضوا ذلك لزوال التشاكل منهما وحصول التباين فيهما، فكذلك يجب أن نرفض ما أنكرناه، وهذا بيِّن.
ومن تأمل هذه المواضع اتضح له أغراضهم في هذه الأبنية، وصحة ما بيناه في جميعها إن شاء الله.