لكونه مقطوعًا به, نظر من وجوه:"أحدها" أن المقدمات لا بد من بقاء مدلولها حال الإنتاج ضرورة ومدلول الصغرى أنه غالب على ظن المجتهد فيسجل أن يكون ذلك الحكم في ذلك الوقت معلوما أيضا لاستحالة اجتماع النقيضين. "الثاني" أنه أقام الدليل على القطع بوجوب العمل بما غلب على ظن المجتهد, وهو غير المطلوب؛ لأنه لا يلزم من القطع بوجوب العملي بما غلب على الظن حصول القطع بالحكم الغالب على الظن والنزاع فيه لا في الأول، فإن قيل: المراد وجوب العمل، قلنا: لا يستقيم؛ لأنه يؤدي إلى فساد الحد؛ لأنه قوله في الحد وهو العلم بالأحكام, لا يدل على العلم بوجوب العمل بالأحكام, لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، ولأن العلم بوجوب العمل بالأحكام مستفاد من الأدلة الإجمالية، والفقه مستفاد من الأدلة التفصيلية، ولأن تفسير الفقه بالعلم بوجوب العمل يقتضي انحصار الفقه في الوجوب, وليس كذلك. "الثالث" أن ما ذكره وإن دل على أن الحكم مقطوع به, لكن لا يدل على أنه معلوم؛ لأن القطع أعم من العلم، إذ المقلد قطع وليس بعالم، وكل عالم قاطع ولا ينعكس، والمدعي هو الثاني وهو كون الفقه معلوما, وما أقام الدلالة عليه بل على القاطع.
قال:"ودليله المتفق عليه بين الأئمة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا بد للأصولي من تصور الأحكام الشرعية ليتمكن من إثباتها, ونفيها لا جرم رتبناه على مقدمة, وسبعة كتب".
أما المقدمة, ففي الأحكام ومتعلقاتها "وفيها بابان" أقول: أدلة الفقه تنقسم إلى متفق عليها بين الأئمة والأربعة وإلى مختلف فيها، فالمتفق عليها أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما عدا ذلك كالاستصحاب والمصالح المرسلة والاستحسان وقياس العكس والأخذ بالأقل وغيرها مما سيأتي فمختلف فيه بينهم، ثم لما كان المقصود من هذه الأدلة هو استنباط الأحكام بالإثبات تارة وبالنفي أخرى كحكمه على الأمر بأنه للوجوب لا للندب, وعلى النهي بأن للتحريم لا للكراهة، والحكم على الشيء بالنفي والإثبات فرع عن تصوره, احتاج الأصولي إلى تصور الأحكام الخمسة، وهي: الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، وتصورها بأن يعرفها بالحد أو بالرسم كما سيأتي، ثم إن المصنف رتب هذا الكتاب على مقدمة وسبعة كتب, فأشار بقوله:"لا جرم رتبناه" إلى وجه ذلك وتقريره: أن أصول الفقه -كما تقدم- عبارة عن المعارف الثلاث: معرفة دلائل الفقه الإجمالية ومعرفة كيفية الاستفادة منها ومعرفة حال المستفيد؛ فأما دلائل الفقه فعقد لها خمسة كتب منها أربعة للأربعة المتفق عليها بين الأئمة, والخامس للمختلف فيها، وأما كيفية الاستفادة وهي الاستنباط فعقد لها الكتاب السادس في التعادل والترجيح، وأما حال المستفيد فعقد له للكتاب السابع في الاجتهاد، هذا بيان الاحتياج إلى الكتب السبعة، وقدم الكتب الستة التي في الدلالة والترجيح على كتاب الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد يتوقف على الأدلة وترجيح بعضها على