قال:"الثالث قبل الحكم إما سبب أو مسبب, كجعل الزنا سببا لإيجاب الجلد على الزاني, فإن أريد بالسببية الإعلام فحق وتسميتها حكما بحث لفظي, وإن أريد التأثير فباطل لأن الحادث لا يؤثر في القديم، ولأنه مبني على أن للفعل جهات توجب الحسن والقبح وهو باطل". أقول: هذا تقسيم ثالث للحكم باعتباره صفة عارضة هو كونه علة ومعلولا، واختلف الناس في القائل بهذا التقسيم فنقله الأصفهاني في شرح المحصول عن الأشاعرة، وهو مقتضى كلام صاحب الحاصل، فإن عبارته: قال الأصحاب, ولعل القائل به منهم هو الغزالي وغيره ممن يرى أن الأسباب الشرعية مؤثرات بجعل الشارع، وقال الأيجي شارح الكتاب: إن هذا التقسيم للمعتزلة ولعله الأقرب, فإنه قد تقدم نقله عنهم في الاعتراضات على حد الحكم، ولعل المصنف استشعر هذا الاختلاف فبناه للمفعول فقال قبل الحكم، وعبارة المحصول والتحصيل قالوا: الحكم، وحاصله أن طائفة قالوا: إن الحكم كما يرد بالاقتضاء أو التخيير قد يرد بجعل الشيء سببا وشرطا ومانعا، ومثلوه بالزاني فقالوا: لله تعالى في الزاني حكمان, أحدهما: جعل الزنا سببا لإيجاب الحد وهذا حكم شرعي لأنه مستفاد من الشرع من حيث إن الزنا لا يوجب الحد لعينه, بل يجعل للشرع فهو حكم سببي، والثاني: إيجاب الحد عليه وهو الحكم المسبب، إذا تقرر هذا فاعلم أن تقسيم المصنف لا يستقيم فإنه قسم الحكم إلى سبب ومسبب، والسبب هو نفس الزنا، وقد صرح به هو حيث قال: كجعل الزنا سببا، فإن ذلك تصريح بشيئين أحدهما: أن الزنا سبب، والثاني: أن جاعله كذلك هو الله تعالى، وإذا كان السبب هو الزنا فلا يمكن جعله من الأحكام بل الذي يمكن جعله منها وهو الذي ذكره صاحب هذا التقسيم إنما هو الجعل نفسه وصوابه أن يقول: إما سببي أو مسبب، وقد صرح به صاحب الحاصل فقال: السببية من أحكام الشرع.
قوله:"فإن أريد بالسببية" أي: يجعل الشرع الزنا سببا لإيجاب الحد هو كونه إعلاما ومعرفا له فهو حق لا نزاع فيه، فإنه يجوز أن يقول الشارع: متى رأيت إنسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد، لكن تسمية السببية بالحكم من باب الاصطلاح وهو بحث لفظي؛ لأنه مبني على تفسير الحكم، فمن زاد فيه الوضع فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع فقد جعله حكما شرعيا، ومن حذفه فليس حكما شرعيا عنده، وقد تقدم إيضاحه في حد الحكم. قوله:"وإن أريد التأثير" أي: وإن أريد بالسببية التأثير بمعنى: أن الله تعالى جعل الزنا مؤثرا في إيجاب الحد, فهو باطل من وجهين, أحدهما: أن الزنا حادث وإيجاب الحد قديم والحادث لا يؤثر في القديم؛ لأن تأثيره فيه يستدعي تأخر وجوده عنه أو مقارنته له، الثاني: أن القول بالتأثير مبني على أن الأفعال مشتملة على صفات تكون هي المؤثرة في الحكم وإلا كان تأثير الفعل في القبح دون الحسن ترجيحا بلا مرجح، وهذا هو قول المعتزلة في الحسن والقبح وهو باطل، وفي الأول نظر من وجهين: أحدهما: أن الاحتجاج بقدم الحكم لا يفيد إن كان هذا التقسيم للمعتزلة؛ لأنهم قائلون بحدوث الأحكام، الثاني: ما ذكره في التحصيل وهو أنهم قد يريدون التأثير ولكن يجعلون تأثير الزنا إنما هو في تعلق الحكم لا في نفس الحكم، وهذا كما أجبنا عن قولهم: حلت المرأة بعد أن لم تكن، بأن المراد حدث تعلق الحل والتعلق حادث, فأثر الحادث في أمر حادث.