"الفصل الأول: في المجتهدين, وفيه مسائل الأول: يجوز عليه الصلاة والسلام أن يجتهد لعموم {فَاعْتَبِرُوا} وجوب العمل بالراجح، ولأنه أشق وأدل على الفطانة، فلا يتركه. ومنعه أبو علي وابنه، لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم: ٣] قلنا: مأمور به فليس بهوى؛ ولأنه ينتظر الوحي، قلنا: ليحصل الناس على النص، أو لأنه لم يجد أصلا يقيس عليه. فرع: لا يخطئ اجتهاده وإلا وجب اتباعه". أقول: اختلفوا في جواز الاجتهاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فذهب الجمهور إلى جوازه ونقله الإمام عن الشافعي، واختاره المصنف وهو مقتضى اختيار الإمام أيضا؛ لأنه استدل له، وأجاب عن مقابله، وذهب أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم إلى المنع، وحكى في المحصول قولا ثالثا: أنه يجوز فيما يتعلق بالحروب دون غيرها، ورابعا نقله عن أكثر المحققين وهو التوقف في هذه الثلاثة وإذا قلنا بالجواز، فقال الغزالي: قيل: وقع وقيل: لا، وقيل بالوقوف، والأول هو الوقوع واختاره الآمدي وابن الحاجب، وهو مقتضى اختيار الإمام وأتباعه، فإن الأدلة التي ذكروها تدل عليه ومحل الخلاف على ما قاله القرافي في شرح المحصول في الفتاوى. أما الأقضية فيجوز الاجتهاد فيها بالإجماع، قال الغزالي: وإذا اجتهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقاس فرعا على أصل فيجوز القياس على هذا الفرع؛ لأنه صار أصلا بالنص. قال: وكذلك لو أجمعت الأمة عليه، ثم استدل المصنف على الجواز بأربعة أوجه, الأول: أن الله تعالى أمر أولي الأبصار به، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس بصيرة وأكثرهم خبرة بشرائط القياس، وذلك يقتضي اندراجه في عموم الآية، فيكون مأمورا بالقياس، وحينئذ فيكون فاعلا له صيانة لعصمته عن ترك المأمور به. الثاني: إذا غلب على ظنه -صلى الله عليه وسلم- أن الحكم في صورة معلل بوصف، ثم علم أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى، فإنه يلزم أن يحصل له الظن بأن حكم الله تعالى في تلك الصورة كحكمه في الصورة الأولى، وحينئذ فيجب عليه أن يعمل بمقتضاه؛ لأن الأصل وهو المقرر في بداية العقول وجوب العمل بالراجح. الثالث: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص؛ لأنه يحتاج إلى إتعاب النفس في بذل الوسع فيكون أكثر ثوابا، لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة:"أجرك على قدر نَصَبِكِ" ١ فلو لم يعمل النبي صلى الله عليه وسلم به مع أن بعض أمته قد عمل به، لكان يلزم اختصاص بعض أمته بفضيلة لم توجد فيه وهو ممتنع. الرابع وهو قريب مما قبله أو هو معه دليل واحد: أن العمل بالاجتهاد أدل على الفطانة وجودة القريحة من العمل بالنص قطعا، فيكون العمل به نوعا من الفضل, فلا يجوز خلو الرسول عليه الصلاة والسلام منه لكونه جامعا لأنواع الفضائل. ثم ذكر المصنف للمانعين دليلين أحدهما: قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
١ أخرجه ابن حجر في تلخيص الحبير "٤/ ١٧٧" وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "٧/ ٧٧".