للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غيره، فقال ما معناه: ولقائل أن يقول: المفهوم أضعف دلالة من المنطوق, فيكون التخصيص به تقديما للأضعف على الأقوى. وذكر صاحب التحصيل نحوه أيضا فقال: في جوازه نظر. نعم جزم في المنتخب هنا بالمنع، وصرح به في المحصول في الكلام على تخصيص العام بذكر بعضه، وقال في الحاصل: إنه الأشبه, واستدل المصنف على الجواز بأن المفهوم دليل شرعي, فجاز تخصيص العموم به جمعا بين الدليلين كسائر الأدلة, مثاله: قوله -عليه الصلاة والسلام: "خلق الله الماء طهورا, لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" مع قوله -صلى الله عليه وسلم: "وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" فإن الأول يدل بمنطوقه على أن الماء لا ينجس عند عدم التغير سواء كان قلتين أم لا. والثاني: يدل بمفهومه على أن الماء القليل ينجس وإن لم يتغير, فيكون هذا المفهوم مخصصا لمنطوق الأول ولم يمثل المصنف لمفهوم الموافقة, ومثاله ما إذا قال: من دخل داري فاضربه ثم قال: إن دخل زيد فلا تقل له: أف. قال: "الخامسة: العادة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم تخصص، وتقريره عليه الصلاة والسلام على مخالفة العام تخصيص له، فإن ثبت "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" يرتفع الحرج عن الباقين" " ١. أقول: لا إشكال في أن العادة القولية تخصص العموم نص عليه الغزالي وصاحب المعتمد والآمدي ومن تبعه كما إذا كان من عادتهم إطلاق الطعام على المقتات خاصة، ثم ورد النهي عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا، فإن النهي يكون خاصا بالمقتات؛ لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية، وأما العادة الفعلية وهي مسألة الكتاب ففيها مذهبان، وذلك كما إذا كان من عادتهم أن يأكلوا طعاما مخصوصا وهو البر مثلا, فورد النهي المذكور وهو بيع الطعام بجنسه, فقال أبو حنيفة: يختص النهي بالبر لأنه المعتاد، وخلافه الجمهور فقالوا بإجراء العموم على عمومه. هكذا نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وقال في المحصول: اختلفوا في التخصيص بالعادات, والحق أنها إن كانت موجودة في عصره -عليه الصلاة والسلام- وعلم بها وأقرها، كما إذا اعتادوا مع الموز بالموز متفاضلا بعد ورود النهي وأقره, فإنها تكون مخصصة، ولكن المخصص في الحقيقة هو التقرير، وإن لم تكن بهذه الشروط فإنها لا تخصص؛ لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع، نعم إن أجمعوا على التخصيص لدليل آخر فلا كلام، وتابع المصنف على هذا التفصيل وهو في الحقيقة موافق لما نقله الآمدي عن الجمهور, فإنهم يقولون: إن العادة بمجردها لا تخصص وإن التقرير يخصص، وعلى هذا فالمراد من قول الجمهور: إن العادة لا تخصص أن غير المعتاد يكون ملحقا بالمعتاد في الدخول, والمراد من قول الإمام: إن العادة التي قررها الرسول تخصص, أن المعتاد يكون خارجا عن غير المعتاد, فهما مسألتان في الحقيقة فافهم ذلك. قوله: "وتقريره" يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى شخصا يفعل فعلا مخالفا للدليل


١ أخرجه العجلوني في كشف الخفاء "١/ ٤٣٦"، والشوكاني في الفوائد المجموعة "٢٠٠".

<<  <   >  >>