مسلم لكن ههنا قرينة دالة على العموم وهي جواز الاستثناء، فإنه يصح أن يقال:"اعتبروا" إلا في الشيء الفلاني، وقد تقدم غير مرة أن الاستثناء معيار العموم، وهذا الجواب ضعيف؛ لأن الاستثناء إنما يكون معيار العموم إذا كان عبارة عن إخراج ما لولاه لوجب دخوله إما قطعا أو ظنا، ونحن لا نسلم أن الاستثناء بهذا التفسير يصح هنا، فإن الفعل في سياق الإثبات لا يعم، وأيضا فإن هذا الجواب لو صح لأمكن اطراده في سائر الكليات فلا يوجد كلي إلا وهو يدل على سائر الجزئيات وهو باطل. والجواب الثاني: أن ترتيب الحكم على الشيء يقتضي العلية، وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارا، فلزم أن يكون كل اعتبار مأمورا به وهو أيضا ضعيف، لما قاله صاحب التحصيل من كونه إثباتا للقياس بالقياس, وقد يجاب آخر وهو أن الأمر بالماهية المطلقة وإن لم يدل على وجوب الجزئيات لكنه يقتضي التخيير بينهما عند عدم القرينة، والتخيير يقتضي جواز العمل بالقياس، وجواز العمل به يستلزم وجوب الفعل به؛ لأن كل من قال بالجواز قال بالوجوب. الاعتراض الثالث: سلمنا أن الآية تدل على الأمر بالقياس، لكن لا يجوز التمسك بها لأن التمسك بالعموم واشتقاق الكلمة كما تقدم إنما يفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع بخلاف الأصول؛ لفرط الاهتمام بها، وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أنها عملية؛ لأن المقصود من كون القياس حجة إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاده كأصول الدين، والعمليات يكتفى فيها بالظن فكذلك ما كان وسيلة إليها، هذا هو الصواب في تقديره، وقد صرح به في الحاصل وهو رأي أبي الحسين، وإن كان الأكثرون كما نقله الإمام والآمدي, قالوا: إنه قطعي، وأما قول بعض الشارحين: إنه يكتفى فيها بالظن مع كونها علمية لكنها وسيلة, فباطل قطعا؛ لأن المعلوم يستحيل إثباته بطريق مظنونة، وقد التزم في المحصول هذا السؤال ولم يجب عنه. قال:"الثاني: قصة معاذ وأبي موسى قيل: كان ذلك قبل نزول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: ٣] قلنا: المراد الأصول لعدم النص على جميع الفروع. الثالث: أن أبا بكر قال في الكلالة: أقول برأيي: للكلالة ما عدا الوالد والولد، والرأي هو القياس إجماعا، وعمر أمر أبا موسى في عهده بالقياس وقال في الجد: أقضي فيه برأيي، وقال عثمان: إن اتبعت رأيك فسديد، وقال علي: اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد، وقاس ابن عباس الجد على ابن الابن في الحجب, ولم ينكر عليهم وإلا لاشتهر. قيل: ذموه أيضا، قلنا: حيث فقد شرطه توفيقا. الرابع: أن ظن تعليل الحكم في الأصل بعلة توجد في الفرع, يوجب ظن الحكم في الفرع والنقصان ولا يمكن العمل بهما ولا الترك لهما, والعمل بالمرجوح ممنوع فتعين العمل بالراجح".
أقول: الدليل الثاني على حجية القياس: السنة, فإنه روي "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قاضيين, كل واحد منهما في ناحية فقال لهما: "بم تقضيان؟ " فقالا: