قد يدور مع حكم آخر، والدوران يفيد العلية، ومنعه قوم مطلقا، واحتجوا بأن الحكم الذي يفرض كونه علة إنما يجوز التعليل به إذا كان مقارنا للحكم الذي هو معلول له؛ لأنه إن كان متقدما عليه فلا يجوز تعليله به، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته، وإن كان متأخرا فلا يجوز أيضا وإلا لزم تقدم المعلول على علته، فثبت أنه يصح التعليل على تقدير واحد، ولا يصح على تقديرين، فيكون التعليل به مرجوحا، وعدم صحة التعليل به راجحا، فإن التقدير الواحد مرجوح بالنسبة إلى التقديرين، ولا شك أن العبرة في الشرع بالراجح لا بالمرجوح، وأجاب المصنف بأنه يجوز التعليل أيضا بالمتأخر؛ لأن المراد من العلة هو المعرف لا المؤثر، والمعرف يجوز أن يكون متأخرا كالعالم مع الصانع سبحانه تعالى، وحينئذ فيصح التعليل به على تقديرين من ثلاثة, ويلزم منه أن يكون راجحا بعين ما قلتم، ولقائل أن يقول: إن كان المراد من التقدم والتأخر إنما هو الزماني فهو مستحيل في الحكم الشرعي، ولكونه قديما، وإن كان المراد به الذاتي فهو ثابت لكل علة ومعلول، فإن العلة متقدمة بذاتها على معلولها، وأيضا فلا نسلم أن المتقدم بالزمان لا يصح للعلية، وإنما يكون كذلك لو كان التخلف لغيره مانعا، قلتم: إنه ليس كذلك، واختار ابن الحاجب أنه يجوز إن كان التعليل به باعثا على تحصيل مصلحة، كما مثلنا من تعليل رهن المشاع بجواز بيعه، ولا يجوز إن كان لدفع مفسدة, كتعليل بطلان البيع بالنجاسة، وللآمدي في هذه المسألة تفصيل يطول ذكره وهو مبني على قواعد مخالفة لاختيار الإمام وغيره. واعلم أن هذا الذي ذكره الإمام والمصنف من جواز تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة الوجود عنه خالف فيه الآمدي، وقال: الصحيح أنه لا يجوز، وإن جعلنا العلة بمعنى العرف، لأن تعريف المعرف محال، وتبعه ابن الحاجب عليه. قال:"قالت الحنفية: لا يعلل بالقاصرة لعدم الفائدة. قلنا: معرفة كونه على وجه المصلحة فائدة, ولنا أن التعدية توقفت على العلية، فلو توقفت هي عليها للزم الدور". أقول: العلة القاصرة كتعليل حرمة الربا في النقدين، وإن كانت ثابتة بنص أو إجماع فيجوز التعليل بها بالاتفاق، كما قاله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وهو مقتضى كلام الإمام، وإن كانت ثابتة بالاجتهاد والاستنباط فكذلك عند الإمام والآمدي وأتباعهما، ونقله إمام الحرمين ومن بعده عن الشافعي، ونقله الآمدي وابن الحاجب عن الأكثر أيضا، وقالت الحنفية: لا يجوز لعدم فائدته؛ لأن فائدة التعليل إنما هو إثبات الحكم وهو غير حاصل، أما في الأصل فلثبوته بالنص، وأما في غيره فلعدم وجود العلة فيه؛ لأن الغرض أنها قاصرة، وإذا انتفت الفائدة في التعليل بها استحال وروده من الشارع؛ لأن الحكيم لا يفعل العبث، وأجاب الإمام بثلاثة أجوبة, أحدها وعليه اقتصر المصنف: أنا لا نسلم انحصار الفائدة في إثبات الحكم، بل لها فائدة أخرى وهي معرفة كون الحكم على وجه المصلحة، ووفق الحكمة لتكون النفس إلى قبوله أميل. الثاني: أن ما قالوه بعينه