للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس فقال: "أيها الناس, إن الله كتب عليكم الحج" ١ فقال الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قالها ثلاثا فقال: "لو قلت نعم, لوجب ولما استطعتم" فهذا أيضا يدل على أن الأمر فيه كان مفوضا إلى اختياره. قوله: "ونحوه" أي: ونحو هذين الدليلين كقوله -عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" ٢ وكقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها" ٣ وكقوله: "إلا الأذخر" في حديث العباس المشهور وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم مكة يوم خلق السموات والأرض, لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها" فقال العباس: إلا الأذخر يا رسول الله؟ فقال: "إلا الأذخر" ٤ وأجاب المصنف بأن هذه الصور كلها لا تدل على تفويض الحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاحتمال أن تكون ثابتة بنصوص محتملة الاستثناء، أي: مجوزة على وفق إرادة بعض الناس، كأن أوحي إليه بأن يقتل الأسارى إلا أن يسأل سائل في أحدهم، والأحسن في الجواب أن يقال: أما قضية النضر فقد يكون عليه السلام مخيرا فيه وفي غيره من الأسارى، والتخيير ليس بممتنع اتفاقا، بل هو التخيير الثابت في حق كل إمام، وأما قوله للأقرع: "لو قلت: نعم, لوجب" فمدلوله الوجوب على تقدير قول نعم، وهذا صحيح معلوم بالضرورة، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يقول: نعم إلا إذا كان الحكم كذلك, ولكن من أين لنا أن الحكم كذلك فقد يكون ممتنعا، وقوله: "لو قلت نعم" لا يدل على جواز قولها؛ لأن القضية الشرطية لا تدل على جواز الشرط الذي فيها، وأما قوله: "لولا أن أشق على أمتي" فيحتمل أن البارئ تعالى أمره أن يأمرهم عند عدم المشقة فلو وجد المشقة لم يأمرهم، وأما قوله: "إلا الأذخر" فيحتمل أن يكون بوحي سريع، أو أطلق العام والمراد به الخصوص, وكان على عزم البيان، وجواب الباقي ظاهر، ولما ثبت القدح في أدلة القاطعين لزم منه صحة التوقف, فلأجل ذلك كان هو المختار. قال:


١ انظر السيرة النبوية لابن هشام في الجزء الثالث ص٤١، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
٢ أخرجه الإمام أحمد في مسنده "١/ ٢٩١".
٣ أخرجه البخاري في صحيحه "٢/ ٥" ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب ١٥، رقم ٤٢, والهيثمي في مجمع الزوائد "١/ ٢٢١" ومالك في الموطأ "٦٦".
٤ أخرجه الإمام أحمد في مسنده "٤/ ٣٢" والزيلعي في نصب الراية "٤/ ٢٦٥" والقرطبي في تفسيره "١٢/ ١٣" والبخاري في صحيحه "٣/ ١٨".

<<  <   >  >>