ثم يرد الناقل بعده لإزالة حكمه فيلزم النسخ مرة واحدة. والجواب عن الأول ما قلناه في الدليل السابق وهو عدم الفائدة، وعن الثاني أن رفع حكم الأصل ليس بنسخ كما تقدم في حد النسخ، فلا يلزم من تقديم المبقي تكثير للنسخ، وأيضا فلو اعتقدنا تأخر الناقل لكان ناسخا لحكم ثابت بدليلين وهما البراءة الأصلية والخبر المؤكد لها، بخلاف ما قلناه، فإنه لا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا. الثاني: الخبر الدال على التحريم راجح على الخبر الدال على الإباحة، كما جزم به المصنف واختاره ابن الحاجب وكذلك الآمدي ونقله عن أصحابنا وعن الأكثرين، وقيل: بترجيح الإباحة لاعتضادها بالأصل حكاه ابن الحاجب. وقيل: يستويان، واختاره الغزالي ولم يرجح الإمام شيئا، والمراد بالإباحة هنا جواز فعل الترك، ليدخل فيه المكروه والمندوب والمباح المصطلح عليه؛ لأن التحريم مرجح على الكل كما ذكره ابن الحاجب؛ ولأن الدليلين المذكورين في الكتاب يقتضيان ذلك أيضا، واحتج القائلون بالتحريم بأمرين، أحدهما: قوله -عليه الصلاة والسلام:"ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال". الثاني: أن الاحتياط يقتضي الأخذ بالتحريم؛ لأن ذلك الفعل إن كان حراما ففي ارتكابه ضرورة، وإن كان مباحا فلا ضرر في تركه. قوله:"ويعادل الموجب" يعني أن الخبر المحرم يعادله الخبر الموجب، فإن ورد دليلان أحدهما يقتضي تحريم شيء والآخر يقتضي إيجابه، فيتعادلان أي: يتساويان حتى لا يعمل بأحدهما إلا بمرجح؛ لأن الخبر المحرم يتضمن استحقاق العقاب على الفعل، والخبر الموجب يتضمن استحقاق العقاب على الترك، فيتساويان أي: وإذا تساويا فيقدم الموجب على المبيح؛ لأن المحرم مقدم على المبيح كما تقدم، والمساوي المقدم مقدم، والحكم بالتساوي هو رأي الإمام وأتباعه، وجزم الآمدي بترجيح المحرم لأن اعتناء الشرع بدفع المفاسد آكد من اعتنائه بجلب المصالح، وذكر ابن الحاجب نحوه أيضا. الثالث: يرجح الخبر المثبت للطلاق أو العتاق على الخبر النافي له، خلافا لبعضهم؛ لأن الأصل عدم القيد، فالخبر الدال على ثبوت الطلاق أو العتاق دال على زوال قيد النكاح أو ملك اليمين، فيكون موافقا للأصل، وحينئذ يكون أرجح، وهذا الذي جزم به المصنف جزم به الآمدي حكما وتعليلا، ثم قال: ويمكن أن يقال: بل النافي أول؛ لأنه على وفق الدليل المقتضي لصحة النكاح، وإثبات ملك اليمين، والدليل المقتضي لصحتها راجح على النافي له، وذكر ابن الحاجب نحو ذلك أيضا، ولم يرجح الإمام شيئا، بل نقل ترجيح المثبت عن الكرخي فقط، ونقل عن قوم آخرين أنهما يستويان. الرابع: يرجح الخبر النافي للحد على الخبر الموجب له خلافا لبعضهم، والدليل عليه أمران أحدهما: أن الحد ضرر, والضرر النفي عن الإسلام لقوله -عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا إضرار في الإسلام". الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام:"ادرءوا الحدود بالشبهات" فإن ورد الخبر في نفي الحد إن لم يوجب الجزم بذلك فلا أقل