قد تقرر أن الشخص محتاج إلى تعريف الغير ما في نفسه، والتعريف إما باللفظ، أو بالإشارة كحركة اليد والحاجب، أو بالمثال وهو الجرم الموضوع على شكل الشيء, وكان اللفظ أفيد من الإشارة والمثال وأيسر, أما كونه أفيد؛ فلعمومه من حيث إنه يمكن التعبير به عن الذات والمعنى الموجود والمعدوم والحاضر والغائب والحادث والقديم كالبارئ سبحانه وتعالى ولا يمكن الإشارة إلى المعنى، ولا إلى الغائب والمعدوم، ولا يمكن أيضا وضع مثال لدقائق العلوم، ولا للبارئ سبحانه وتعالى وغير ذلك، قال الإمام: ولأن المثال قد يبقى بعد الحاجة فيقف عليه من لا يريد الوقوف عليه، وأما كونه أيسر فلأنه موافق للأمر الطبيعي؛ لأنه مركب من الحروف الحاصلة من الصوت وذلك إنما يتولد من كيفيات مخصوصة تعرض للنفس عند إخراجه وإخراجه ضروري, فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به الشخص انتفاعا كليا، فلما كان اللفظ أفيد وأيسر وضع, فقوله: وضع, جواب لما وقوله: يعرض بكسر الراء فقط, قاله الجوهري قال: فإن كان من قولك: عرضت العود على الإناء وشبهه, كسرت أيضا وقد يضم.
واعلم أن الكتابة من جملة الطرق أيضا ولا يصح أن يريدها المصنف بقوله، والمثال لأن تعليله بالعموم يبطله؛ لأن كل ما صح التعبير عنه أمكن كتابته, فلا يكون اللفظ أعم منها فاعرف ذلك.
قوله:"بإزاء المعاني الذهنية" هذا هو الثالث من الأقسام الستة, وهو الموضوع له, وحاصله أن الوضع للشيء فرع عن تصوره فلا بد من استحضار صورة الإنسان مثلا في الذهن عند إرادة الوضع له, وهذه الصورة الذهنية هي التي وضع لها لفظ الإنسان لا الماهية الخارجية، والدليل عليه أنا وجدنا إطلاق اللفظ دائرا مع المعاني الذهنية دون الخارجية ببيانه أنا إذا شاهدنا شيئا فظننا أنه حجر أطلقنا لفظ الحجر عليه، فإذا دنونا منه وظنناه شجرا أطلقنا لفظ الشجر عليه، ثم إذا ظنناه بشرا أطلقنا لفظ البشر عليه, فالمعنى الخارجي لم يتغير مع تغيير اللفظ فدل على أن الوضع ليس له بل للذهني. وأجاب التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذهنية على اعتقاد أنها في الخارج كذلك وهو جواب ظاهر, ويظهر أن يقال: إن اللفظ موضوع بإزاء المعنى من حيث هو، أي: مع قطع النظر عن كونه ذهنيا أو خارجيا, فإن حصول المعنى في الخارج والذهن مع الأوصاف الزائدة على المعنى، واللفظ إنما وضع للمعنى من غير تقييده بوصف زائد، ثم إن الموضوع له قد لا يوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه، وهذه المسألة قد أهملها الآمدي وابن الحاجب, قوله:"ليفيد النسب" شرع يتكلم في فائدة الوضع، وهو الرابع من الأقسام، واللام متعلقة بقوله قبله: وضع، وحاصله أن اللفظ وضع لإفادة النسب بين المفردات كالفاعلية والمفعولية وغيرهما، ولإفادة معاني المركبات من قيام أو قعود، فلفظ زيد مثلا وضع ليستفاد به الإخبار عن مدلوله بالقيام أو غيره، وليس الغرض من الوضع أن يستفاد بالألفاظ معانيها المفردة،