للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بعده، فلم يحتج إلى وصية في ذلك ولم يوصِ إلى خليفة يكون بعده على التنصيص؛ لأن الأمر كان ظاهرا من إشارته وإيمائه إلى الصديق؛ ولهذا لما هم بالوصية إلى أبي بكر ثم عدل عن ذلك فقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (١) وكان كذلك، وإنما أوصى الناس باتباع كتاب الله تعالى.

من لم يتغن بالقرآن وقول الله تعالى:

﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١].

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، حدثنا عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، ، أنه كان يقول: قال رسول الله : " لم يأذن الله لشيء، ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن "، وقال صاحب له: يريد يجهر به فرد من هذا الوجه. ثم رواه عن علي بن عبد الله بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري به (٢). قال سفيان: تفسيره: يستغنى به، وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة (٣) ومعناه: أن الله ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك.

وهو، ، يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم، كما قالت عائشة، : سبحان الله الذي وسع سمعه الأصوات (٤). ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ الآية [يونس: ٦١]، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم، ومنهم من فسر الأذن هاهنا بالأمر، والأول أولى لقوله: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن" أي: يجهر به، والأذن: الاستماع؛ لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الانشقاق: ١ - ٥] أي: وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه، فالأذن هو الاستماع؛ ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجة بسند جيد عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله : " لله أشد أذنا إلى الرجل (٥) الحسن الصوت بالقرآن [يجهر به] (٦) من صاحب القينة إلى قينته " (٧).

وقال سفيان بن عيينة: إن المراد بالتغني: يستغنى به، فإن أراد: أنه يستغنى عن الدنيا، وهو الظاهر من كلامه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره، فخلاف الظاهر من مراد الحديث؛ لأنه قد فسره بعض رواته بالجهر، وهو تحسين القراءة والتحزين بها (٨).


(١) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧٢١٧) ومسلم في صحيحه برقم (٢٣٨٧) من حديث عائشة، .
(٢) صحيح البخاري برقم (٥٠٢٣، ٥٠٢٤).
(٣) صحيح مسلم برقم (٧٩٢) وسنن النسائي (٢/ ١٨٠).
(٤) رواه النسائي في السنن (٦/ ١٦٨) ورواه البخاري في صحيحه برقم (٧٣٨٥) معلقا.
(٥) في ط، جـ: "أذنا الرجل".
(٦) زيادة من ابن ماجة.
(٧) سنن ابن ماجة برقم (١٣٤٠).
(٨) نقل الحافظ ابن حجر في الفتح (٩/ ٧٠) عن ابن الجوزي أربعة أقوال في معنى يتغنى: تحسين الصوت، الاستغناء، التحزن كما قال الشافعي، التشاغل به. قال: وحكى ابن الأنباري قولا خامسا وهو التلذذ والاستحلاء.