للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ) أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده، وهو قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم) فقيل: (١) أراد بالمحصنات: الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد. وإنما قال مجاهد: المحصنات: الحرائر، فيحتمل (٢) أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه. وهو (٣) قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل (٤) في المثل: "حَشفَا (٥) وسَوء كيلة". (٦) (٧) والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنا، كما قال في الآية الأخرى: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ [النساء: ٢٥].

ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هل يعم كل كتابية عفيفة، سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف، ممن فسر المحصنة بالعفيفة. وقيل: المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات، وهو مذهب الشافعي. وقيل: المراد بذلك: الذميات دون الحربيات؛ لقوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ][التوبة: ٢٩] (٨)

وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ الآية [البقرة: ٢٢١].

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب، حدثنا القاسم بن مالك -يعني المُزَنِيّ-حدثنا إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي مالك الغفاري، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فنكح الناس [من] (٩) نساء أهل الكتاب.

وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا، أخذا بهذه الآية الكريمة: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فجعلوا (١٠) هذه مخصصة للآية التي في البقرة: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [الآية: ٢٢١] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها (١١)؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كما قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: ١] وكقوله (١٢) ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ الآية [آل عمران: ٢٠]


(١) في د: "قيل"، وفي أ: "قلت".
(٢) في أ: "يحتمل".
(٣) في أ: "وهي".
(٤) في د: "كما قيل".
(٥) في ر، د: "حثف".
(٦) في أ: "كلية"، وهو خطأ.
(٧) الحشف: أردأ التمر، وانظر: مجمع الأمثال للميداني (١/ ٢٠٧).
(٨) زيادة من ر، أ. وفي هـ: "الآية".
(٩) زيادة من أ.
(١٠) في أ: "وجعلوا".
(١١) في ر، أ: "وبيننا".
(١٢) في ر: "ولقوله".