للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى {فَيُصْبِحُوا} يَعْنِي: الَّذِينَ وَالَوُا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} مِنَ الْمُوَالَاةِ {نَادِمِينَ} أَيْ: عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، مِمَّا لَمَّ يُجْد عَنْهُمْ (١) شَيْئًا، وَلَا دَفَعَ عَنْهُمْ مَحْذُورًا، بَلْ كَانَ عَيْنَ الْمُفْسِدَةِ، فَإِنَّهُمْ فُضِحُوا، وَأَظْهَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَسْتُورِينَ لَا يُدْرَى كَيْفَ حَالُهُمْ. فَلَمَّا انْعَقَدَتِ الْأَسْبَابُ الْفَاضِحَةُ لَهُمْ، تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُونَ، فَبَانَ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَذَا الْحَرْفِ، فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُ الَّذِينَ} ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ {وَيَقُولُ} عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَصَبَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} تَقْدِيرُهُ "أَنْ يَأْتِيَ" "وَأَنْ يَقُولَ"، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: {يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} حِينَئِذٍ {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبٍ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ، فَذَكَرَ السُّدِّي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ، قَالَ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى ذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، فَآوِي إِلَيْهِ وَأَتَهَوَّدُ مَعَهُ، لَعَلَّهُ يَنْفَعُنِي إِذَا وَقَعَ أَمْرٌ أَوْ حَدَثَ حَادِثٌ! وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَمَّا أَنَا فَأَذْهَبُ إِلَى فُلَانٍ النَّصْرَانِيُّ بِالشَّامِ، فَآوِي إِلَيْهِ وَأَتَنَصَّرُ مَعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٢) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الْآيَاتِ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابة بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَة، فَسَأَلُوهُ: مَاذَا هُوَ صَانِعٌ بِنَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَيْ: إِنَّهُ الذَّبْحُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقِيلَ: نزلت فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُول، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَوَالِي مَنْ يَهُودٍ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودٍ، وَأَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ، لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ مَوَالِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: "يَا أَبَا الحُباب، مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَهُوَ لَكَ دُونَهُ". قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] } (٣) إِلَى قَوْلِهِ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (٤) .


(١) في أ: "عندهم".
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من ر، أ.
(٤) تفسير الطبري (١٠/٣٩٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>