للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، بَلْ هِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْ عِصْمَةِ اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] (١) لِرَسُولِهِ حفْظُه لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَصَنَادِيدِهَا وَحُسَّادِهَا ومُعَانديها وَمُتْرَفِيهَا، مَعَ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ والبَغْضة وَنَصْبِ الْمُحَارَبَةِ لَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، بِمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ بقَدَره وَحِكْمَتِهِ (٢) الْعَظِيمَةِ. فَصَانَهُ فِي ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، إِذْ كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا كَبِيرًا فِي قُرَيْشٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً طَبِيعِيَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَرْعِيَّةً، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ لَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ كُفَّارُهَا وَكِبَارُهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْكُفْرِ هَابُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ نَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ أَذًى يَسِيرًا، ثُمَّ قَيَّضَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (٣) لَهُ الْأَنْصَارَ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى دَارِهِمْ -وَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَلَّمَا صَارَ إِلَيْهَا حَمَوه مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَكُلَّمَا هَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِسُوءٍ كَادَهُ اللَّهُ وَرَدَّ كَيْدَهُ عَلَيْهِ، لَمَّا كَادَهُ الْيَهُودُ بِالسِّحْرِ حَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ سُورَتِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ دَوَاءً لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَلَمَّا سَمَّ الْيَهُودُ فِي ذِرَاعِ تِلْكَ الشَّاةِ بِخَيْبَرَ، أَعْلَمَهُ (٤) اللَّهُ بِهِ وَحَمَاهُ [اللَّهُ] (٥) مِنْهُ؛ وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِي وَغَيْرِهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابُهُ شَجَرَةً ظَلِيلَةً فَيُقِيلُ تَحْتَهَا. فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: "اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"، فَرُعِدَت يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْهُ، قَالَ: وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (٦)

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّان، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي أَنْمَارٍ، نَزَلَ ذَاتَ الرِّقاع (٧) بِأَعْلَى نَخْلٍ، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ بِئْرٍ قَدْ دَلَّى رِجْلَيْهِ، فَقَالَ غَوْرَث بْنُ الْحَارِثِ (٨) مِنْ بَنِي النَّجَّارِ: لَأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: كَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَقُولُ لَهُ: أَعْطِنِي سَيْفَكَ. فَإِذَا أَعْطَانِيهِ قَتَلْتُهُ بِهِ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَعْطِنِي سَيْفَكَ أشيمُه. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَرُعدت يَدُهُ حَتَّى سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَالَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيدُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}

وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقِصَّةُ "غَوْرَث بن الحارث" مشهورة في الصحيح. (٩)


(١) زيادة من ر، أ.
(٢) في ر: "بقدرة حكمته".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "أعلم".
(٥) زيادة من أ.
(٦) تفسير الطبري (١٠ / ٤٧٠) .
(٧) في ر، أ: "الرقيع".
(٨) في ر، أ: "الوارث".
(٩) في إسناد ابن أبي حاتم موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، والقصة أصلها في صحيح البخاري برقم (٤١٣٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>