للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَزَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَعَدْلِهِ، أَنَّ النُّفُوسَ إِنَّمَا تُجَازَى بِأَعْمَالِهَا (١) إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ مِنْ خَطِيئَةِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ. وَهَذَا مِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فَاطِرَ: ١٨] ، وَقَوْلُهُ {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه: ١١٢] ، قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ (٢) : فَلَا يُظْلَمُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَلَا يُهْضَمُ بِأَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [الْمُدَّثِّرِ: ٣٨، ٣٩] ، مَعْنَاهُ: كُلُّ نَفْسٍ مُرْتَهِنَةٌ بِعَمَلِهَا السَّيِّئِ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَعُودُ (٣) بَرَكَاتُ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ عَلَى ذَرَارِيهِمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الطُّورِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الْآيَةَ: ٢١] ، أَيْ: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} أَيْ: أَنْقَصْنَا أُولَئِكَ السَّادَةَ الرُّفَعَاءَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا حَتَّى سَاوَيْنَاهُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَنْقَصُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةً، بَلْ رفعهم تعالى إلى منزلة الْآبَاءِ بِبَرَكَةِ أَعْمَالِهِمْ، بِفَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ (٤) ثُمَّ قَالَ: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطَّوْرِ: ٢١] ، أَيْ: مِنْ شَرٍّ.

وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أَيِ: اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَسَتُعْرَضُونَ وَنُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُنْبِئُنَا وَإِيَّاكُمْ بِأَعْمَالِنَا وَأَعْمَالِكُمْ، وَمَا كُنَّا نَخْتَلِفُ فِيهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سَبَأٍ: ٢٥، ٢٦] .

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥) }

يَقُولُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ} أَيْ: جَعَلَكُمْ تُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وقَرْنا بَعْدَ قَرْنٍ، وخَلَفا بَعْدَ سَلَف. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزُّخْرُفِ: ٦٠] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} [النَّمْلِ: ٦٢] ، وَقَوْلِهِ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} [الْبَقَرَةِ: ٣٠] ، وَقَوْلِهِ {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: ١٢٩] .

وَقَوْلِهِ: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أَيْ: فَاوَتَ بَيْنَكُمْ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَخْلَاقِ، والمحاسن والمساوي، وَالْمُنَاظِرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزُّخْرُفِ: ٣٢] ، وَقَوْلُهُ [تَعَالَى] (٥) : {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: ٢١] .


(١) في م: "بالأعمال".
(٢) في د، م، أ: "العلماء بالتفسير".
(٣) في أ: "يعود".
(٤) في أ: "ومنه".
(٥) زيادة من أ.

<<  <  ج: ص:  >  >>