للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقال تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ أي هذه الوصية ﴿إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [فصلت: ٣٤ - ٣٦] وقال في هذه السورة الكريمة أيضا: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فهذه الآيات الثلاث في "الأعراف" و "المؤمنون" و "حم السجدة"، لا رابع لهن، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى؛ ولهذا قال: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان، فإنه لا يكفه (١) عنك الإحسان، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك.

قال ابن جرير في تفسير قوله: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ) وإما يُغْضبَنَّك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين (٢) ويحملك على مجازاتهم (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) يقول: فاستجر بالله من نزغه (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقول: إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خلقه.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قال رسول الله : "يا رب، كيف بالغضب؟ " فأنزل الله: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣)

قلت: وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي ، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبًا، فقال رسول الله : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقيل له، فقال: ما بي من جنون (٤)

وأصل "النزغ": الفساد، إما بالغضب أو غيره، قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: ٥٣] و"العياذ": الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر، وأما "الملاذ" ففي طلب الخير، كما قال أبو الطيب [الحسن بن هانئ] (٥) المتنبي:

يَا مَنْ ألوذُ به فيمَا أؤمِّلُه … وَمَنْ أعوذُ به مما أحَاذرُه

لا يَجْبر الناس عَظمًا أنت كاسرُه … ولا يَهِيضُون عَظمًا أنت جَابِره (٦)

وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا.


(١) في ك، م: "لا يكفيه"، وفي أ: "لا يكفيك".
(٢) في د، ك، م: "الجاهل".
(٣) تفسير الطبري (١٣/ ٣٣٣).
(٤) انظر: الحديث وتخريجه في الكلام على الاستعاذة.
(٥) زيادة من ك، م، أ.
(٦) ديوان المتنبي (٢/ ٢٧٢). قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (١١/ ٢٧٥): "وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ، أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح لجناب الله . وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم، ، أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعوا الله بما تضمناه من الذل والخضوع".