للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَتَخْصِيصُ الْمُلْكِ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيْئًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ: ٣٨] وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طه: ١٠٨] ، وَقَالَ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هُودٍ: ١٠٥] .

وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَقُولُ: لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَهُ حُكْمًا، كَمِلْكِهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْحِسَابِ لِلْخَلَائِقِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى تَفْسِيرِ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِقَامَتِهِ، ثُمَّ شَرَعَ يُضْعِفُهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَمَا تَقَدَّمَ (١) ، وَأَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ يَعْتَرِفُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَلَا يُنْكِرُهُ، وَلَكِنَّ السِّيَاقَ أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا، كَمَا قَالَ: {المْلُكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الْفُرْقَانِ: ٢٦] وَالْقَوْلُ الثَّانِي يُشْبِهُ قَوْلَهُ: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} ، [الْأَنْعَامِ: ٧٣] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

والمَلِك فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ وَلَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِيهِمَا عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ " وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فَأَمَّا تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَلِكٍ فَعَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) .

وَالدِّينُ الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، وَقَالَ: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ، وَفِي الْحَدِيثِ: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ" أَيْ حَاسَبَ نَفْسَهُ لِنَفْسِهِ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَأَهَّبُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ عَلَى مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمْ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} ".

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) } .

[قَرَأَ السَّبْعَةُ وَالْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ {إِيَّاكَ} وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ فَايِدٍ بِتَخْفِيفِهَا مَعَ الْكَسْرِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ "إِيَّا" ضَوْءُ الشَّمْسِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "أَيَّاكَ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "هَيَّاكَ" بِالْهَاءِ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَهَيَّاكَ وَالْأَمْرَ الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ ... مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ مَصَادِرُهُ

وَ {نَسْتَعِينُ} بِفَتْحِ النُّونِ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ فِي قِرَاءَةِ الْجَمِيعِ سِوَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشِ فَإِنَّهُمَا كَسَرَاهَا وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ وَرَبِيعَةَ وَبَنِي تَمِيمٍ وَقَيْسٍ] (٢) . الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الذِّلَّةِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبّد، وَبَعِيرٌ مُعَبّد، أَيْ: مُذَلَّلٌ، وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ.

وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ وَهُوَ {إِيَّاكَ} ، وَكُرِّرَ؛ لِلِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ، أَيْ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْكَ، وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الطَّاعَةِ. وَالدِّينُ يَرْجِعُ كُلُّهُ (٣) إِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْفَاتِحَةُ سِرُّ الْقُرْآنِ، وَسِرُّهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَةِ: ٥] فَالْأَوَّلُ تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَالثَّانِي تَبَرُّؤٌ مِنَ الْحَوْلِ والقوة، والتفويض


(١) في جـ، ط: "وبين ما تقدم".
(٢) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(٣) في ?ط: "كله يرجع".

<<  <  ج: ص:  >  >>