للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وفي الآية الأخرى: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ [المؤمنون: ٢١]، ويجوز هذا وهذا، كما في قوله تعالى: ﴿كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ [المدثر: ٥٤، ٥٥]، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ﴾ [النمل: ٣٥، ٣٦] أي: المال.

وقوله: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا) أي: يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كلٌ إلى موطنه، إذا نضج الغذاء في معدته تصرف (١) منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع (٢) وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه، ولا يتغير به.

وقوله: (لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) أي: لا يغص به أحد (٣).

ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا (٤)، ثَنَّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة، من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه؛ ولهذا امتن به عليهم فقال: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) دل على إباحته شرعا قبل تحريمه، ودل على التسوية بين السَّكَر المتخذ من العنب، والمتخذ من النخل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وكذا حُكْم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك، كما قال (٥) ابن عباس في قوله: (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) قال: السَّكَر: ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما. وفي رواية: السَّكر حرامه، والرزق الحسن حلاله. يعني: ما يبس منهما من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء -وهو الدِّبس (٦) -وخل ونبيذ، حلال يشرب قبل أن يشتد، كما وردت السنة بذلك.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ناسب ذكر العقل هاهنا، فإنه أشرف ما في الإنسان؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها؛ قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٤ - ٣٦].

﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)

المراد بالوحي هاهنا: الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها، ومن الشجر، ومما يعرشون. ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها، بحيث لا يكون بينها خلَل.


(١) في ت، ف: "يصرف".
(٢) في أ: "الضروع".
(٣) في ت، ف، أ: "أحد به".
(٤) في ف: "وسائغا".
(٥) في ف: "قاله".
(٦) الطلاء: الشراب المطبوخ من عصير العنب، وأما الدبس: فهو عسل التمر وعصارته.