للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم (١) ويتبرز عنهم ناحية. فكان (٢) أول من جلس منهم [وحده] (٣) أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقًا، من حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، ، قالت: قال رسول الله : "الأرواح جنود مُجَنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" (٤). وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل (٥) عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي (٦) (٧).

والناس يقولون: الجنسية علة الضم.

والغرض أنه جعل كل (٨) أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفًا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون -والله يا قوم-إنه ما (٩) أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم، إلا (١٠) شيء فليظهر كل واحد منكم ما بأمره. فقال آخر: أما أنا فإني [والله] (١١) رأيت ما قومي عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد [وحده] (١٢) ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء: السموات والأرض وما بينهما. وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك. وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه (١٣) فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله ﷿؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) ولن: لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) أي: باطِلا وكذبًا وبهتانًا.

(هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) أي: هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحًا صحيحًا؟! (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله، أبى عليهم، وتَهَدّدهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجَّلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه. وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه. والفرار بدينهم من الفتنة.

وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في


(١) في ف، أ: "عنهم".
(٢) في ت، ف: "وكان".
(٣) زيادة من ت، ف، أ.
(٤) صحيح البخاري برقم (٣٣٣٦).
(٥) في أ: "سهل".
(٦) في ف، أ: "عن رسول الله".
(٧) صحيح مسلم برقم (٢٦٣٨) ..
(٨) في ت: "وأنه جعل كل"، وفي ف: "أنه كل".
(٩) في ت: "إنما".
(١٠) في ت: "لا".
(١١) زيادة من ف.
(١٢) زيادة من ف.
(١٣) في ت: "عليهم".