للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا يَرْزُقُهُمْ (١) تَعَالَى السَّمْعَ الَّذِي بِهِ يُدْرِكُونَ الْأَصْوَاتَ، وَالْأَبْصَارَ اللَّاتِي بِهَا يُحِسُّونَ الْمَرْئِيَّاتِ، وَالْأَفْئِدَةَ -وَهِيَ الْعُقُولُ-الَّتِي مَرْكَزُهَا الْقَلْبُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الدِّمَاغُ وَالْعَقْلُ بِهِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ ضَارِّهَا وَنَافِعِهَا. وَهَذِهِ الْقُوَى وَالْحَوَاسُّ تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى التَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا كُلَّمَا كَبِرَ زِيد فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.

وَإِنَّمَا جَعَلَ تَعَالَى هَذِهِ فِي الْإِنْسَانِ، لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ تَعَالَى، فَيَسْتَعِينُ بِكُلِّ جَارِحَةٍ وَعُضْوٍ وَقُوَّةٍ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ (٢) أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أحبَّه، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي (٣) يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأعطيته، وَلَئِنْ دَعَانِي لَأُجِيبَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ" (٤) .

فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْلَصَ الطَّاعَةَ صَارَتْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُبْصِرُ إِلَّا اللَّهَ، أَيْ: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَبْطِشُ وَلَا يَمْشِي إِلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ، بَعْدَ قَوْلِهِ: "وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا": "فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي"؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الْمُلْكِ: ٢٣، ٢٤] .

ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى (٥) النَّظَرِ إِلَى الطَّيْرِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَيْفَ جَعَلَهُ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُ هُنَاكَ إِلَّا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى، الَّذِي جَعَلَ فِيهَا قُوًى تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَسَخَّرَ الْهَوَاءَ يَحْمِلُهَا وَيَسَّرَ الطَّيْرَ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الْمُلْكِ: ١٩] . وَقَالَ هَاهُنَا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}


(١) في ت: "يرزقهم الله".
(٢) في ت، ف، أ: "بأفضل".
(٣) في ت: "الذي".
(٤) صحيح البخاري برقم (٦٥٠٢) .
(٥) في ف: "على".

<<  <  ج: ص:  >  >>