للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)، ذكر (١) مقاتل بن حيان وابن جريج أنها نزلت في سرية من الصحابة، لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، فنصرهم الله عليهم، [و] (٢) (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)﴾.

يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، كما قال: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] (٣)[آل عمران: ٢٦، ٢٧] ومعنى إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل: إدخاله من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل، كما في الصيف.

وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي: سميع بأقوال عباده، بصير بهم، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم.

ولما بين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، قال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي: الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) أي: من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضرًا ولا نفعًا.

وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)، كما قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وقال: ﴿الْكَبِيرُ (٤) الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: ٩] فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه، وعز وجل عما يقول الظالمون [المعتدون] (٥) علوا كبيرا.

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)

وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، فإنه يرسل (٦) الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجُرُز التي (٧) لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة، ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: ٥].

وقوله: (فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً)، الفاء هاهنا للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما قال: ﴿خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ [المؤمنون: ١٤]، وقد ثبت في الصحيحين: "أن بين كل شيئين أربعين يوما" ومع هذا هو معقب (٨) بالفاء، وهكذا هاهنا قال: (فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً) أي: خضراء بعد يبسها ومُحُولها (٩).

وقد ذكر عن بعض أهل (١٠) الحجاز: أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم.

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي: عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر، لا يخفى عليه خافية، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به، كما قال لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ١٦]، وقال: ﴿أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النمل: ٢٥]، وقال تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩]، وقال ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ الآية [يونس: ٦١]؛ ولهذا قال أمية بن [أبي] (١١) الصلت-أو: زيد بن عمرو بن نُفيل-في قصيدته:

وَقُولا لَه: مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى … فَيُصبحَ منْهُ البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابيَا?

ويُخْرجُ منْهُ حَبَّه في رُؤُوسه … فَفي ذَاك آيات لمَنْ كَانَ وَاعيا (١٢)

وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي: ملكه جميع الأشياء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه.

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (٦٦)﴾.


(١) في أ: "قال".
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من ف، أ: وفي ت: "الآية".
(٤) في ت، ف: "وهو الكبير".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "وأنه مرسل".
(٧) في أ: "الذي".
(٨) في أ: "تعقيب".
(٩) في أ: "وقحوطا".
(١٠) في هـ ت: "أرض" والمثبت من ف، أ.
(١١) زيادة من ف، أ.
(١٢) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/ ٢٢٨).