للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

واحد منهما غواة من قومه -وهم (١) السفهاء -فقال الله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ).

. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أكثر قولهم يكذبون فيه.

وهذا الذي قاله ابن عباس، ، هو الواقع في نفس الأمر؛ فإن الشعراء يتَبجَّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس لهم؛ ولهذا اختلف العلماء، ، فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حَدًّا: هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في الطبقات، والزبير بن بَكَّار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ، استعمل النعمان بن عدي بن نَضْلَة على "ميسان" -من أرض البصرة -وكان يقول الشعر، فقال:

ألا هَل أتَى الحَسْنَاءَ أنّ حَليِلَها … بِمَيْسَانَ، يُسقَى في زُجاج وَحَنْتَم

إذَا شئْتُ غَنَّتْني دَهاقينُ قَرْيَة … وَرَقَّاصَةٌ تَجذُو على كل مَنْسم (٢)

فإنْ كُنتَ نَدْمانِي فَبالأكْبر اسْقني … وَلا تَسْقني بالأصْغَر المُتَثَلم (٣)

لَعَل أميرَ المؤمنينَ يَسُوءه … تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدَم

فلما بلغ [ذلك] (٤) أمير المؤمنين قال: أي والله، إنه ليسوءني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته. وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: ١ - ٣] أما بعد فقد بلغني قولك:

لَعَلَّ أمير المُؤمنينَ يَسُوُءه … تَنَادُمُنَا بالجَوْسق (٥) المُتَهَدّم

وايم الله، إنه ليسوءني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بَكَّتَه بهذا الشعر، فقال: والله -يا أمير المؤمنين -ما شربتها قَطّ، وما ذاك الشعر إلا شيء طَفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدًا، وقد قُلتَ ما قلتَ (٦).

فلم يُذكر أنه حَدّه على الشراب، وقد ضمنه شعره؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه (٧) ذمَّه عمر، ، ولامه على ذلك وعزله به. ولهذا جاء في الحديث: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، يَرِيه خير له من أن يمتلئ شعرًا" (٨).

والمراد من هذا: أن (٩) الرسول (١٠) الذي أنزل عليه (١١) القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر؛


(١) في ف: "فهم".
(٢) في ف، أ: "مبسم".
(٣) في ف: "المتلثم".
(٤) زيادة من ف، أ.
(٥) في ف، أ: "في الجوسق".
(٦) الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (٢/ ٢٦٦) والطبقات الكبرى لابن سعد (٤/ ١٤٠).
(٧) في ف: "ولكن".
(٨) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٢٥٧) من حديث أبي هريرة .
(٩) في ف، أ: "أن هذا الرسول".
(١٠) في ف، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
(١١) في ف، أ: "عليه هذا القرآن".