للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون، بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله. فلما حملت أم موسى به، ، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًّا زائدًا، وكان موسى، ، لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعًا قال الله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩]. فلما ضاقت ذرعًا به ألهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونفث في روعها، كما قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتًا، ومهدَت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في ذلك التابوت، وسيرته (١) في البحر، وربطته (٢) بحبل عندها. فلما كان ذات يوم دخل عليها مَنْ تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن تربطه، فذهب مع الماء واحتمله، حتى مر به (٣) على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه، فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها. فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها؛ ولهذا قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [وَحَزَنًا]) (٤).

قال محمد بن إسحاق وغيره: "اللام" هنا لام العاقبة لا لام التعليل؛ لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك. ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى (٥) اللام للتعليل؛ لأن معناه أن الله تعالى، قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوًا وحزنًا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه؛ ولهذا قال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ).

وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كتب كتابًا إلى قوم من القدرية، في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق: وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن، قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾، وقلتم أنتم: لو شاء فرعون أن يكون لموسى وليًا ونصيرًا، والله يقول: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا).

وقوله تعالى: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يعني: أن فرعون لما رآه همَّ بقتله خوفًا من أن يكون من بني إسرائيل فجعلت امرأته آسية بنت مزاحم تُحَاجُّ عنه وتَذب دونه، وتحببه إلى فرعون، فقالت: (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فقال: أما لك فَنَعَم، وأما لي فلا. فكان كذلك، وهداها الله به، وأهلكه الله على يديه، وقد تقدم في حديث الفتون في سورة "طه" هذه القصة بطولها، من رواية ابن عباس مرفوعًا عن النسائي وغيره.


(١) في ت: "وأرسلته".
(٢) في أ: "وأوثقته".
(٣) في أ: "حتى قربه".
(٤) زيادة من ت، ف، أ.
(٥) في ت: "يعني".