للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قال ابن عباس: لما قالت ذلك أخذوها، وشكوا في أمرها، وقالوا لها: وما يدريك نصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظُؤُورة (١) الملك ورجاء منفعته. فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخَلَصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به (٢) على أمه، فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا. وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاءً جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلا وأولادًا، ولا أقدر على المقام عندك. ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت. فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجْرَتْ عليها النفقة والصلات والكساوي والإحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية، قد أبدلها الله من بعد خوفها أمنا، في عز وجاه ورزق دَارٍّ. ولهذا جاء في الحديث: "مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها" ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل: يوم وليلة، أو نحوه، والله [سبحانه] (٣) أعلم، فسبحان من بيديه الأمر! ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجًا، وبعد كل ضيق (٤) مخرجًا. ولهذا قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) أي: به، (وَلا تَحْزَنْ) أي: عليه: (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي: فيما وعدها من رده إليها، وجعله من المرسلين. فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا.

وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي: حُكْمَ الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس، وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وقال تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩].

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)﴾.

لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى، ، ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى، آتاه الله حكما وعلما -قال مجاهد: يعني النبوة (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).


(١) في هـ، ت، ف، أ: "صهر" والمثبت من حديث الفتون. انظر: الجزء الخامس، تفسير سورة طه.
(٢) في ت: "بها".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت: "ضيقة".