للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه (١)، كتب يوم الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: "ثم أخذ فكتب": وهذه محمولة على الرواية الأخرى: "ثم أمر فكتب". ولهذا اشتد النكير بين فقهاء المغرب والمشرق على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم: وإنما أراد الرجل -أعني الباجي، فيما يظهر عنه -أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال، (٢) إخبارا عن الدجال: "مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: "ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن" (٣)، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت، (٤) حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له؛ قال الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو) أي: تقرأ (مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ) لتأكيد النفي، (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) تأكيد أيضا، وخرج مخرج الغالب، كقوله تعالى: ﴿وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨].

وقوله: (إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) أي: لو كنت تحسنها (٥) لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنما تعلم هذا من كُتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ [الفرقان: ٥]، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦]، وقال هاهنا: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي: [هذا] (٦) القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق، أمرًا ونهيًا وخبرًا، يحفظه العلماء، يَسَّره الله عليهم حفظًا وتلاوةً وتفسيرًا، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧]، وقال رسول الله : "ما مِنْ نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" (٧).

وفي حديث عياض بن حمار (٨)، في صحيح مسلم: "يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان" (٩). أي: لو غسل الماء المحلَّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل، كما جاء في الحديث الآخر: "لو كان القرآن في إهاب، ما أحرقته النار" (١٠)، لأنه محفوظ في الصدور، ميسر (١١) على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظًا ومعنى؛ ولهذا جاء في الكتب المتقدمة، في صفة هذه الأمة: "أناجيلهم في صدورهم".


(١) في ف، أ: "".
(٢) في ف، أ: "".
(٣) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧١٣١) من حديث أنس .
(٤) في أ: "".
(٥) في ت: "تحسن الكتابة".
(٦) زيادة من ت، ف، أ.
(٧) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧٢٧٤) من حديث أبي هريرة ، وسيأتي إن شاء الله.
(٨) في أ: "حماد".
(٩) صحيح مسلم برقم (٢٨٦٥).
(١٠) رواه أحمد في مسنده (٤/ ١٥١) من حديث عقبة بن عامر. وتقدم الكلام عليه في فضائل القرآن.
(١١) في ت: "وميسر".