للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

"تعافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَب" (١) . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ، خَيْرٌ لِأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمطَروا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" (٢) .

وَقِيلَ: الْمُرَادُ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فَلَا تُقِيمُوا الْحَدَّ كَمَا يَنْبَغِي، مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ الزَّاجِرِ عَنِ الْمَأْثَمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الضَّرْبَ المبرِّح.

قَالَ عَامِرُ الشَّعْبِيُّ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قَالَ: رَحْمَةٌ (٣) فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: ضَرْبٌ لَيْسَ بالمبرِّح. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوُبة، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: يُجْلَدُ (٤) الْقَاذِفُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، وَالزَّانِي تُخْلَعُ ثِيَابُهُ، ثُمَّ تَلَا {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فَقُلْتُ: هَذَا فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: هَذَا فِي الْحُكْمِ وَالْجَلْدِ -يَعْنِي فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِي شِدَّةِ الضَّرْبِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأوْدِيّ (٥) حَدَّثَنَا وَكيع، عَنْ نَافِعٍ، [عَنِ] (٦) ابْنِ عمرو، عَنِ (٧) ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (٨) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ، فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا -قَالَ نَافِعٌ: أَرَاهُ قَالَ: وَظَهْرَهَا -قَالَ: قُلْتُ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قَالَ: يَا بُنَيَّ، ورأيتَني أخَذَتْني بِهَا رَأْفَةٌ؟ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا، وَلَا أَنْ أَجْعَلَ جَلدها فِي رَأْسِهَا، وَقَدْ أُوجِعَتْ حَيْثُ ضُرِبَتْ (٩) .

وَقَوْلُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أَيْ: فَافْعَلُوا ذَلِكَ: أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَنْ زَنَى، وَشَدِّدُوا عَلَيْهِ الضَّرْبَ، وَلَكِنْ لَيْسَ مبرِّحا؛ لِيَرْتَدِعَ هُوَ وَمَنْ يَصْنَعُ مِثْلَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا، فَقَالَ: "وَلَكَ فِي ذَلِكَ أَجْرٌ" (١٠) .

وَقَوْلُهُ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : هَذَا فِيهِ تَنْكِيلٌ لِلزَّانِيَيْنِ إِذَا جُلِدا بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي زَجْرِهِمَا، وَأَنْجَعَ فِي رَدْعِهِمَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَفَضِيحَةً إِذَا كَانَ النَّاسُ حُضُورًا.

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يَعْنِي: عَلَانِيَةً.

ثُمَّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الطَّائِفَةُ: الرَّجُلُ فَمَا فَوْقَهُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّائِفَةُ: رَجُلٌ إِلَى الْأَلْفِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ الطَّائِفَةَ تصدُق عَلَى وَاحِدٍ.

وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: اثْنَانِ. وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَويه. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: يعني: رجلين فصاعدا.


(١) رواه أبو داود في السنن برقم (٤٣٧٦) والنسائي في السنن (٨/٧٠) مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده.
(٢) المسند (٢/٣٦٢) والنسائي في السنن (٨/٧٥) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٣) في ف، أ: "رحمة الله".
(٤) في أ: "نجلد".
(٥) في ف: "الأزدي" وفي أ: "الأرزمي".
(٦) زيادة من جـ، أ.
(٧) في ف، أ: "وعن".
(٨) في ف، أ: "عبد الله".
(٩) ورواه الطبري في تفسيره (١٨/٥٢) من طريق نافع، عن ابن عمر فذكره.
(١٠) المسند (٣/٤٣٦) من حديث قرة المزني، رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>