للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَعْظَمُ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا، فَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى أُنْزِلَ جُمْلَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا (١) ثُمَّ نُزِّلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} ، وَقَوْلُهُ {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا} [الْإِسْرَاءِ: ١٠٦] (٢) .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ سُوءِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي مَعَادِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فِي أَسْوَأِ الْحَالَاتِ وَأَقْبَحِ الصِّفَاتِ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا} ، وَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: "إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمشِيَه عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (٣) وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (٤) .

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٣٧) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (٣٨) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (٤٠) }

يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا مَنْ كَذَّبَ رسولَه مُحَمَّدًا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ وَمَنْ خَالَفَهُ (٥) ، وَمُحَذِّرَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، مِمَّا أَحَلَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ ابْتَعَثَهُ وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا، أَيْ: نَبِيًّا مُوَازرا وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا، فَكَذَّبَهُمَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَـ {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [مُحَمَّدٍ: ١٠] .، وَكَذَلِكَ فعلَ بِقَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نُوحًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ كَذَّبَ بِرَسُولٍ فَقَدْ كَذَّبَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ رَسُولٍ وَرَسُولٍ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ كُلَّ رَسُولٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} ، وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ إِلَّا نُوحٌ فَقَطْ، وَقَدْ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ نقَمه، فَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَلِهَذَا أَغْرَقَهُمُ الله


(١) في أ: "من السماء الدنيا".
(٢) النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٣٧٢) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٧٦٠) وصحيح مسلم برقم (٢٨٠٦) .
(٤) زيادة من ف.
(٥) في ف، أ: "خالفهم".

<<  <  ج: ص:  >  >>