للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

العقوبة، ولم يَقْدرْ أحد من أهل الأرض، لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه، كقوله: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ﴾ [الجن: ٢٢، ٢٣]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٧]؛ ولهذا قال هاهنا: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، هذا تهديد لهم، ووعيد أكيد، وترهيب شديد.

وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة، أي: ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم، تاب عليكم وعفا عنكم، وغفر [لكم] (١) ورحم. وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٥، ٦].

وقوله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) أي: لست بأول رسول طرق العالم، بل قد جاءت الرسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا (٢) بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم.

قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) ما أنا بأول رسول. ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.

وقوله: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: نزل بعدها ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢]. وهكذا قال عكرمة، والحسن، وقتادة: إنها منسوخة بقوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين: هذا قد بين الله ما هو فاعل بك يا رسول الله، فما هو فاعل بنا؟ فأنزل الله: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ﴾ [الفتح: ٥].

هكذا قال، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله هذه الآية.

وقال الضحاك: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ): ما أدري بماذا أومر، وبماذا أنهى بعد هذا؟

وقال أبو بكر الهذلِيّ، عن الحسن البصري في قوله: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال: أما في الآخرة فمعاذ الله، قد علم أنه في الجنة، ولكن قال: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء [من] (٣) قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو تُرمون بالحجارة؟

وهذا القول هو الذي عَوّل عليه ابن جرير، وأنه لا يجوز غيره، ولا شك أن هذا هو اللائق به، صلوات الله وسلامه عليه، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئُول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا: أيؤمنون أم يكفرون، فيعذبون


(١) زيادة من أ.
(٢) في ت، م، أ: "وتستبعدون".
(٣) زيادة من أ.