للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل، ، حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه.

قال (١) الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أعطى رسول الله رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئًا، فقال سعد: يا رسول الله، أعطيت فلانًا وفلانا ولم تُعط فلانًا شيئًا، وهو مؤمن؟ فقال النبي : "أو مسلم" حتى أعادها سعد ثلاثا، والنبي يقول: "أو مسلم" ثم قال النبي : "إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم".

أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، به (٢).

فقد فرق النبي بين المسلم والمؤمن، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من "صحيح البخاري" ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدل هذا على (٣) أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري، ، ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد أنهم قالوا في قوله: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) أي: استسلمنا خوف القتل والسباء. قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله .

والصحيح الأول؛ أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعد، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا، كما ذكر المنافقون في سورة براءة. وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي: لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.

ثم قال: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [شَيْئًا]) (٤) أي: لا ينقصكم من أجوركم شيئا، كقوله: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الطور: ٢١].

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: لمن تاب إليه وأناب.


(١) في ت: "وروى".
(٢) المسند (١/ ١٧٦) وصحيح البخاري برقم (٢٧) وصحيح مسلم برقم (١٥٠).
(٣) في ت: "إلى".
(٤) زيادة من ت.