للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولهذا قال: تعالى (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) وهذا جنس، أي: كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم. كما قال: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: ١٤]. (١) ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع، كما قال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٥]، ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٢٣]. ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٤١] وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) أي: عظيمة شديدة أليمة.

قال مجاهد: (رابية) شديدة. وقال السدي: مهلكة.

ثم قال الله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) أي: زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود. وقال ابن عباس وغيره: (طَغَى الْمَاءُ) كثر -وذلك بسبب دعوة نوح، ، على قومه حين كذبوه وخالفوه، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن أبي سنان سعيد بن سنان، عن غير واحد، عن علي بن أبي طالب قال: لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان فخرج، فذلك قول الله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك، إلا يوم عاد، فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) عتت على الخزان (٢).

ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) وهي السفينة الجارية على وجه الماء، (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي: وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ١٢، ١٣]، وقال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: ٤١، ٤٢].

وقال قتادة: أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والأول أظهر؛ ولهذا قال: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) أي: وتفهم هذه النعمة، وتذكرها أذن واعية.

قال ابن عباس: حافظة سامعة (٣) وقال قتادة: (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) عقلت (٤) عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله، وقال الضحاك: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) سمعتها أذن ووعت. أي: من له سمع صحيح وعقل رجيح. وهذا عام فيمن فهم، ووعى.


(١) في م، أ، هـ: "إن كل إلا".
(٢) تفسير الطبري (٢٩/ ٣٢).
(٣) في م: "سامعة حافظة".
(٤) في م: "تحفظت"، وفي أ: "حفظت".