للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩) } .

يَقُولُ تَعَالَى مُرْشِدًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حُرُوبِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَيْ: إِذَا وَاجَهْتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا بِالسُّيُوفِ، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا} أَيْ: أَهْلَكْتُمُوهُمْ قَتْلًا {فَشُدُّوا} [وَثَاقَ] (١) الْأُسَارَى الَّذِينَ تَأْسِرُونَهُمْ، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَانْفِصَالِ الْمَعْرَكَةِ مُخَيَّرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، إِنْ شِئْتُمْ مَنَنْتُمْ عَلَيْهِمْ فَأَطْلَقْتُمْ أُسَارَاهُمْ مَجَّانًا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ بِمَالٍ تَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ وَتُشَاطِرُونَهُمْ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، عَاتَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْأُسَارَى يَوْمَئِذٍ لِيَأْخُذُوا مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَالتَّقَلُّلِ مِنَ الْقَتْلِ يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: ٦٧، ٦٨] .

ثُمَّ قَدِ ادَّعَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ -الْمُخَيِّرَةَ بَيْنَ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ وَالْمَنِّ عَلَيْهِ-مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] } (٢) الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: ٥] ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْج.

وَقَالَ الْآخَرُونَ -وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ-: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.

ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا الْإِمَامُ مُخَيَّر بَيْنَ الْمَنِّ عَلَى الْأَسِيرِ وَمُفَادَاتِهِ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ.

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ شَاءَ، لِحَدِيثِ قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيط مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَالَ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " فَقَالَ: إِنْ تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَمْنُنْ تَمْنُنْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ (٣) .

وَزَادَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مُفَادَاتِهِ أَوِ اسْتِرْقَاقِهِ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحَرّرة فِي عِلْمِ الْفُرُوعِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا "الْأَحْكَامِ"، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى يَنْزِلَ عيسى ابن مريم


(١) زيادة من ت، أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٣٧٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>